البحث عن الحقيقة الدينية

الأحد، 29 أبريل 2018 05:45 م
البحث عن الحقيقة الدينية
د.مهند خورشيد يكتب :

يُعَدّ الفيلسوف الألماني غوتهولد أفرائيم ليسينغ (١٧٢٩-١٧٨١) أحد أهم فلاسفة عصر التنوير الأوروبي. وقف ليسينغ في وجه الكنيسة وخاصة في وجه أولئك المتعصبين فيما يتعلق بمسألة احتكارالحق المطلق ورفض الاعتراف بالإسلام وباليهودية كأديان سماوية، ولكنه واتقاءً لشر الكنيسة في زمانه لم يُصرح بآرائه بشكل مباشر،  فصاغ رسالته التي أراد أن يوصلها للمجتمع على شكل رواية تناول فيها قضية التسامح بين الأديان دون أن يصرح برأيه، فكانت النتيجة رواية من أروع ما يمكن قراءته. وكم تحتاج شعوب الأرض لهذه الرسالة الإنسانية العظيمة المُتضمنة في رواية ليسينغ. فإليكم تلخيص هذه الرواية، لأنه لا بد على كل مثقف أن يكون على دراية بها وأن يتفكر في مغزاها.
 
إنها حكاية ذلك الخاتم العجيب وعنوانها "ناتان الحكيم". 
بطل الرواية هو الحكيم اليهودي ناتان، الذي استدعاه السلطان المسلم وأكرمه غاية الإكرام وأجلسه إلى جانبه ثم قال له: ياصديقي العزيز، لقد أكد لي كثير من معارفي أنك حكيم متخصص في علم الإلهيات. ولذلك أود أن تبين لي أي دين من الأديان الثلاثة هو دين الحق، أهو دين اليهود أو دين الإسلام أو دين النصارى؟ فبادر الحكيم ناتان إلى حشد قوى عقله كلها للوصول إلى جواب فيه من البراءة ما يفتقر إليه. فلما توصل إلى كيفية الإجابة عن سؤال السلطان قال: يامولاي، إن السؤال الذي طرحته علي سؤال مهم يحتاج إلى عمق التفكير، وما دمت قد طلبت مني الإجابة عنه، فأرجو أن تسمح لي بقص هذه القصة: يُروى أن رجلا غنياً نبيلاً، عاش في غابر الزمان، وكان يدخر في بيت ماله جواهر كثيرة وأحجاراً كريمةً نادرة. وكان له خاتم عجيب نفيس، يفضله عن سائر كنوزه، لأن الذي يمتلك هذا الخاتم يحصل على محبة الله وعلى محبة الناس، فأراد أن ينال هذا الخاتم التقدير اللائق بقيمته، وأن يبقى إلى الأبد ملك سلالته، فكان كل أب يُوَرِّثه لأحب أولاده إليه. 
 
فكان الخاتم ينتقل مورثاً من يد إلى يد، فناله كثير من خلف الجد الأعلى، حتى انتهى إلى رجل كان له أبناء ثلاثة كان يحبهم جميعاً بنفس الدرجة، فلم يعرف من يختار منهم فيجعله وارث الخاتم. فوعد كل واحد منهم بأن يعطيه الخاتم، وبحث عن وسيلة تمكنه من إرضائهم أجمعين. ولكي يتوصل إلى هدفه إلتجأ إلى الخطة التالية محاطة بسرية تامة: أمر صائغاً حاذقاً بصنع خاتمين يشبهان الخاتم الأصلي، فنجح الصائغ في أن يصنع الخاتمين الجديدين طبقاً للخاتم الأصلي تماماً، حتى أن الأب نفسه الذي كان قد أمر الصائغ بصنعهما كاد ييأس من تمييز الخاتم الأصلي عن الآخرين. وعندما أشرف على الموت، أعطى كلَّ واحد من بنيه أحدَ الخواتم خفية عن أخويه في كل مرة. وبعد وفاة والدهم ادعى كل واحد منهم أنه وارث الخاتم، ومن ثم فهو المفضل على أهل البيت، ونازع كل واحد منهم أخويه حق الأفضلية. فذهبوا إلى القاضي ليحكم بينهم، لكنه لم يستطع هو أيضاً التعرف على الخاتم الصحيح، مع ذلك خطر له الحل فقال لهم: "إن ميزة الخاتم الأصل أن صاحبه محبوب من الله ومن الناس، فهو متميز بعمله الصالح وخلقه الرفيع وحرصه على منفعة الناس، إذن، مالك الخاتم الأصلي منكم هو ذلك الشخص الذي تنطبق عليه هذه الأوصاف، فليأخذ كل منكم خاتمه وليعد به إلى بيته وليبدأ بإثبات أن خاتمه هو الخاتم الأصلي وذلك بأن يشهد عمله الصالح على ذلك وبأن يشهد عليه الناس أنه رجل صالح محبوب وصاحب خلقٍ عالٍ ويحرص على منفعة الناس، فابدأوا المنافسة بينكم على العمل الصالح، حتى يأتي بعد آلاف السنين قاض هو أعلم مني يستطيع أن يحكم لأحفاد أحفادكم من الذي يملك الخاتم الأصلي. عاد الإخوة إلى حياتهم اليومية حيث بدأت المنافسة".  
 
رسالة ليسينغ من خلال هذه الرواية هي أن التعايش السلمي والتفاهم بين أتباع الأديان لا ينتج عن النقاشات والجدالات العقيمة حول ما يعتقد كل واحد منهم وحول السؤال عن الذي يملك الحقيقة المطلقة، بل يتحقق بالسعي من وراء العمل الصالح الذي أمر الله أتباع الديانات الثلاث بالقيام به، كما توصي به النصوص في التوراة والإنجيل والقرآن. فليسينغ يرى أن هذه الديانات الثلاث تشترك في أصلها وجوهرها في الإيمان بالله والدعوة للعمل الصالح، وهذا هو الجوهر الثابت لهذه الأديان على مر العصور. فالذي يمتلك الحقيقة هو ذلك الإنسان الحريص على هذا الجوهر وليس بذلك الذي يضيع وقته بالنقاش والجدال عن الحقيقة. فبالنسبة لليسينغ فإن الإنسان العاقل المتنور لا يمكن أن يضيع وقته في الجدالات والنقاشات العقيمة، بل يوقف جهوده على السعي لإظهار جوهر دينه الأصيل، وبالتالي يسارع إلى فعل الخيرات والأعمال الصالحة وفقاً لما أوصاه الله به. 
فمن أراد أن يتنافس على الحق، فليكن ذلك بالتسابق على عمل الخير وتبني القيم الإنسانية الرفيعة وترجمتها لواقع يعيشه صاحبه. أما النقاشات العقيمة فغالباً ما تنتهي بالكراهية والتباعد بين المتناقشين، فيكونوا كلهم في عداد الخاسرين المُفرطين بالحقيقة. 
 
ألا تذكرنا رواية ليسينغ هذه بتلك الآية من سورة المائدة؟ "… لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ". 
 
لما سُئل الفيلسوف ليسينغ عن الحقيقة أجاب:
لو أخذ الله الحقيقة المطلقة بيمناه، والبحث عن الحقيقة بيسراه، والخطأ معها لزام لي، ثم قال لي اختر أي واحدة؟ إذاً لجثوت على ركبتي ضارعاً وقلت: يا رب بل امنحني الشوق الخالد إلى البحث عن الحقيقة لأن الحقيقة النهائية هي ملك لك وحدك لا شريك لك في العظمة والملك والفهم. 
 
الحق هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، فالله هو الحق المطلق، لذلك لا يجوز لكائن من كان أن يدعي امتلاك الحق المطلق، لأن الله سبحانه لا يُمتلك، فهو رب الناس أجمعين. وكلٌ منا يبقى باحثاً عن الحق متقرباً إليه بتواضع دون ادعاء إمكانية امتلاكه. أما من ادعى أنه استحوذ على الحق المطلق، فادعاؤه هذا هو بحد ذاته علامة على شدة بعده عن الحق، لأنه لم يقدر الله حق قدره فادعى أنه أصبح ممتلكاً لله، أي أصبح فوق الله، فليراجع خاصة أولئك الذين يدّعون احتكار الحق ويرفضون الأديان الأخرى ويظنون أنهم يمكنهم امتلاك الله وحاشاه، فليراجعوا أنفسهم وعلاقتهم بالله، أهي علاقة الباحث عن محبة الله والقرب منه، أم هي مجرد علاقة توظيف لصورة الإله لتبرير الموقف الاستعلائي من أصحاب الديانات الأخرى؟

 

تعليقات (1)
الحقيقة ؟
بواسطة: عمار
بتاريخ: الإثنين، 25 يونيو 2018 07:57 م

ما تفضلتم به حول هذا المقال ومسرحية او قصة ليسنج جميلة جدا من حيث الجوهر فالأديان في أصلها نعم تحث على الإيمان والعمل الصالح والتخلص من الشرور واقامة العدل , ولكن ما تفضلتم به لا يمنع البحث عن حقيقة هي الأقرب للخاتم الأصلي فبالنهاية هناك خاتم حقيقي وهناك مزيفين ! ووفقاً لأسس العقل ومنهج التاريخ والمنطق والتوثيق والوجدان السليم يمكننا الوصول لأقرب نقطة للحق , ونحن نؤكد على أحقية الحق المطلق عند الله فهوي يقول : وهو يقول الحق وهو يهدي السبيل , ويدعونا للدعاء في كل ركعة "اهدنا الصراط المستقيم ". وبالتالي : يدعونا الله للبحث الدائم عنه والتقرب من اسمه الحق ومن صراطه المستقيم في كل المجالات . ويدعونا لنبذ الفرقة والاختلاف ولكنه نبهنا لأولئك الأحبار والرهبان والكهنة من كل الأديان والفرق الذين يشترون بايته ثمنا قليلا فيزورون الحقائق لمصلحة ما أو جاه أو مال او غيره فيجب التنبه والبحث عن الحق في كل شيء حتى داخل المنظومة التي تؤمن أنها الحقيقة , وقد قال حجة الإسلام الغزالي : من لم يسك لم ينظر ومن لم ينظر لم يصل ومن لم يصل بقي في عمى او كما نُقل عنه . وشكرا لكم

اضف تعليق