قاتل يدفن نفسه في ذاكرة رقمية

الثلاثاء، 05 يونيو 2018 01:11 ص
قاتل يدفن نفسه في ذاكرة رقمية
محمود الغول يكتب:

قبل أربعين سنة قتلت أحدهم، وكانت هذه أول سابقة في صحيفة حالتي الجنائية التي لا تعرف دوائر الشرطة عنها شيئًا، فهي وثيقة رقمية مطبوعة في خيالي.. خيالي أنا فقط، ولا أحد يعرف بوجودها حتى هؤلاء الذين ادعوا يومًا أنهم يعيشون بين ثنايا تجاعيدي وفي شراييني وأوردتي.

أما اليوم - وتوًّا يعني إذا أردتم الدقة - فقد نجحت في قتل آخر إنسان على الأرض.. كان ثقيلًا حتى إنني حين حملته كي ألقيه إلى الحفرة التي كنت سأدفنه فيها انكسر ظهري وسقطت الجثة على الأرض، فأقسمت ألا أدفنه وأن أبقيه في العراء لتنهش الضباع جيفته في المساء، حين تخرج بحثًا عن طعام نتن.

وما بين الأول والأخير، تبيت في الصحيفة عشرات القصص والحكايات عن هؤلاء الذين قتلتهم جزاء لما اقترفوه في حقي من جرائم، وسوف أحكي لكم بعضًا منها، بينما أنا واقف لأشاهد الضباع وهي تمزق جسد ذلك الرجل المترهل.

أول ضحاياي - أو بالأحرى أول مَن كنت أنا ضحيته - هي ابنة الجيران، ولنرمز لها بالحرف «ن» سمراء في لون الخمر، شعرها منسدل على كتفين لامعتين، وعيناها حبتا لؤلؤ فيهما يختلط الأبيض بالبني الفاتح، أما باقي ملامح وجهها فلا ينصح بوصفها لأصحاب القلوب الضعيفة.. إذا خطت التفتت لها الدنيا، وإذا وقفت سكن الكون.. وهذه قتلتها لأنها لم تستجب لابتسامتي حين لمحتها تعبر الطريق، فأطلقت صوب رأسها رصاصة واحدة أردتها قتيلة. 

وفي مرة أخرى، قتلت معلمي في المرحلة الابتدائية، وهو كان رجلًا نحيفًا لدرجة تجعلك تخال ساقيه وكأنهما عودان من القصب.. وجهه شاحب وشاربه نحيف مثله، كلما تحدث كنت أرتعد، فقد كان - رحمة الله عليه - يعنفني في كل حصة ويختلق من الأسباب ما يجعله يهوي بعصاته على ظهر يدي، ولما شكوته لأبي قال لي والدي إن المعلم له أن يفعل ما يراه في صالحي حتى ولو كان صالحي هذا في أن يقتلني.. لهذا بادرت أنا وأطلقت رصاصة الرحمة صوب قلبه.. نعم لقد كانت رصاصة الرحمة لكن لي أنا. آه، نسيت أن أخبركم باسم معلمي هذا، لكن على كل حال اسمه لن يفيد، ولنرمز لاسمه بحرف «ر». 

كما تشمل قائمة قتلاي واحدًا من أعز أصدقائي - هكذا كنت أظن - هو فتى طيب أسنانه بارزة وكذا وجنتاه وجبينه ونواياه.. كان كلما رآني أسرف في الترحيب بي، غير أن طريقته في الحديث كانت تزعجني، فليس فقط لسانه الذي يتكلم، إذ يمكنك بكل سهولة أن ترى يده وهي تتكلم وكذا قدمه وكوعه.. كان ملاكمًا يتحدث إلى وجهك وكتفك وظهرك وفخذك، فلما وجهت له لومي ذات مرة قال: «إنها لغة الجسد يا عزيزي». ساعتها قررت الخلاص منه، فمنحته رصاصة واحدة في منتصف جبهته، ثم بكيت على جثته ليلة كاملة قبل أن أخفيها تحت إبطي.

أيضًا أذكر مديري في العمل، هذا الرجل كان لطيفًا بما يكفي لأن لا أشعر ولو بوخز الضمير حين أطلقت عليه خزانة المسدس كاملة، فقد كان تافهًا ومتسلطًا كزوجة الأب. يوم أن قتلته كان برفقة مساعدته الحسناء، ويبدو أنه في الليلة السابقة لم يكن على ما يرام في الفراش، لهذا أراد أن يستعرض ذكورته أمامها بأن يأمرني بأداء بعض الأعمال غير المهمة فقط ليثبت أنه طاغية يجيد تعذيب الفئران. ساعتها لم أفكر كثيرًا، أفرغت في صدره كل ما كان بمعدة مسدسي الطيب.

وتشمل قائمة الذين قتلتهم العديد والعديد من الناس مثل منافسي الذي عرقلني قبل أن أحرز هدفًا، وبائع الفاكهة الذي شراني تفاحًا معطوبًا، وموظف شباك التذاكر الذي تسبب في عدم لحاقي بآخر قطار، والطاهي الذي وضع مزيدًا من الملح في طبقي، وفتاة الليل التي منحتني جسدها ولم تقبلني، والسائس الذي وضع سيارتي في عرض الطريق، ورجل المرور الذي منحني مخالفة لقيادتي مسرعًا، وذلك الممثل ثقيل الظل، وجارتي التي سكبت ماء الغسيل على عتبتي، والكاتب الذي قتل بطل حكايته في أول صفحة من روايته، والصنايعي الذي جلب لي طلاءً رديئًا، والقاضي الذي لم ينظر في شكوتي، والشحاذ الذي بصق حين منحته جنيهًا ورقيًّا مهترئًا، وجدتي التي لم تحك لي حكاية.

كل الذين قتلتهم حضرت جنازاتهم وبكيت كما لم أبكِ حين مات جدي.. لم أكن أبكي عليهم بقدر ما كنت أبكي نفسي فيهم، فكلما قتلت أحدهم كان العالم يضيق بي، حتى أنني الآن أحدثكم من قبري.. فهذه البقعة الصغيرة هي كل ما تبقى من عالمي.. لم أكن أدرك أنني كلما قتلت أحدهم مات جزء مني أنا ثم انحسر العالم عني حتى بت وحيدًا في قبري.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة