الضاحك الباكي.. قصة تزييف مذكرات نجيب الريحاني المنشورة بدار الهلال

الجمعة، 08 يونيو 2018 02:04 م
الضاحك الباكي.. قصة تزييف مذكرات نجيب الريحاني المنشورة بدار الهلال
نجيب الريحاني
وجدي الكومي

 

ربما لم يجد المصريون فنانا قريبا إلى قلوبهم، يعبر عن همومهم على الشاشة، مثل نجيب الريحاني، المولود في حي باب الشعرية، عام 1889، والمتوفي عام 1949 في الثامن من يونيو، لأب من أصل عراقي، عمل بتجارة الخيل، واستقر به الحال في القاهرة، وتزوج فيها، فأنجب نجيب، الذي عاش طفولته في حي باب الشعرية، واختلط بأهلها، فصار منهم، ويشبههم.

كانت مصر تشهد تحولات عظمى في مطلع القرن العشرين، كانت الصالات الفنية تنتشر على أطراف حديقة الأزبكية، جوقة الشيخ سلامة حجازي تقدم أعمالا درامية غنائية معتمدة على جمال صوت صاحب الفرقة، وأنشأ مجموعة من الهواة مسرحا متواضعا أسمه مسرح التمثيل العربي، في شارع كامل "الجمهورية حاليا"، وكان من أهم ما قدمه الشيخ سلامة من أعمال مسرحية، هي «تليماك» و«عايدة» و«عظمة الملوك».

ظهر نجيب الريحاني في الفترة من 1910 و1919، حسبما تشير راوية راشد في كتابها "يوسف وهبي سنوات المجد والدموع" يكتب ويمثل بعض الأدوار الهزلية التي تتخللها وصلات من الرقص والغناء، وظل مجهولا حتى قدم شخصية الفلاح الساذج "كشكش بيه" التي ظلت عنوانه، وخاتمه الذي ختم به الكوميديا المصرية.

شخصية "كشكش بيه" هي شخصية الفلاح الساذج الريفي البسيط الذي يقع ضحية للنصابين، الذين يستولون على ثروته، التي جناها من بيع محصول القطن، كانت تلك التيمة المصرية الدرامية الشائعة آنذاك، إذ استقبلت القاهرة أعيان الريف ليبيعوا محاصيلهم، فيقع بعضهم ضحية إغواء سيدات الليل، أو النصابين، فيعودون إلى قراهم خاليي الوفاض، بعدما بددوا ثرواتهم في صالات القمار وعلب الليل.

نجيب وليلى مراد
نجيب وليلى مراد

كانت الأجواء الفنية في القاهرة تصطخب، جاء جورج أبيض إلى مصر، وبدأ يكون فرقته المسرحية، حيث قدم أعمالا مترجمة عن الروايات الأجنبية التراجيدية، يشهد شارع عماد الدين نموا فنيا خاصا، وتزدهر فيه الحركة الفنية، وتفتتح المسارح.

كان نجيب الريحاني يبكي المشاهدين من الضحك خلال تمثيله شخصية "كشكش بيه" بعبقرية وفهم لأبعاد الشخصية، كان يحاكم القاهرة التي لا ترحم الغرباء، وتسلط عليهم نصابيها، إلا أن رسالته لم تٌفهم على هذا النحو، وظهرت أصوات تهاجم نجيب الريحاني، لأنه يستهزئ بشخصية الفلاح المصري، كتب إبراهيم عبد القادر المازني في مقاله الإسبوعي في جريدة الأيام، مطالبا بوقف عرض الرواية، أو مقاطعتها، لأنها تؤكد ما يردده البريطانيون عن المصريين بأنهم غافلون، غير جديرين بالحرية، وعلى الرغم من نجاح كشكش بيه، قرر الريحاني إيقاف عرض الرواية استجابة للأصوات التي هاجمته.

لم يكن المازني الوحيد الذي هاجم نجيب الريحاني، إذ انتقد يحي حقي أعمال نجيب الريحاني المسرحية، وقال في لقاء تلفزيوني له قديم، بثته قناة ماسبيرو زمان: كان لي رأي في نجيب الريحاني أن مسرحه مقتبسا، على الرغم من عبقريته في التمثيل، لكن مسرحه كان اقتباسا من أعمال المسرح الفرنسي وهو "الفيدويل"، وأحببت أن أقلل من المبالغات في مسرح الريحاني، لكن الأعمال الممصرة ليست أصيلة، فأحببت أن أكتب حدة التعالي التي كانت غالبة على الإشادة بأعمال الريحاني. 

ذاعت شهرة نجيب الريحاني وفرقته قبل اندلاع ثورة 1919، وبعد توقف تقديمه لشخصية كشكش بيه، بحث عن رواية أخرى، فتعرف على مدرس لغة عربية هو بديع خيري، الذي كان معروفا بصداقته لسيد درويش، وذاعت شهرته بعد أن ألف له رواية "العشرة الطيبة، فنجح الريحاني أن يقنعه بكتابة نص مسرحي لفرقته، فقدم له بديع نصا ممصرا لرواية "خلي بالك من إميلي".

نجحت "خلي بالك من إيملي" نجاحا مبهرا، وكانت تؤدي دور "إيملي" روزا اليوسف، التي جاءت من الشام هربا من المجازر العثمانية والتحقت بفرقة جورج أبيض الذي جاء هو الآخر من لبنان.

مؤخرا فتح الشاعر شعبان يوسف، ملف سيرة نجيب الريحاني، وكشف أنها ملفقة، ووقع في خطأ الترويج لها دار الهلال، التي أصدرتها عقب رحيل الريحاني، بعشرة سنوات، وكانت هذه المذكرات قد نشرت في مجلة الكواكب عام 1952، إلا أن المذكرات الحقيقية للريحاني، نشرتها دار نشر صغيرة وغير معروفة تسمى دار "الجيب" عام 1949، في نفس السنة التي رحل فيها الريحاني.

ويدلل شعبان يوسف على صدق المذكرات غير ذائعة الصيت المنشورة عام 1949، بأن الناقد الكبير الراحل على الراعي ذكرها في كتابه "فنون الكوميديا من خيال الظل إلى نجيب الريحاني، وذكرها في هامش مرة واحدة فقط لا غير، أما المذكرات التي نشرتها دار الهلال، فوجدت رواجا كاسحا، على الرغم من كذب صورة الريحاني التي حوتها، والتي لا تمت إليه بصلة.

 

مذكرات نجيب الريحاني غلاف

مذكرات الريحاني التي حملت توقيعه، هي تلك التي صدرت بعنوان "مذكرات نجيب الريحاني زعيم المسرح الفكاهي" واعتمد شعبان يوسف على المقالات التي كان يكتبها الريحاني نفسه في مجلات مجلات ذلك الزمان ومنها مجلة "الإثنين" و"الدنيا" ومجلة "الراديو" ومجلة "الاستوديو" ومجلة "الكواكب" وغيرها من المطبوعات، ليضاهي بها أسلوب الريحاني في المذكرات التي أصدرتها دار الهلال، وأسلوبه في مذكرات دار الجيب، وهو ما تكشف عنه زيف بعض ما احتوته مذكراته الصادرة عن دار الهلال.

ويشير شعبان يوسف في كتابه :المذكرات المجهولة إلى أن هناك مؤامرة حيكت حول نجيب الريحاني استهدفت تشويه صورته بعد رحيله، إذ دأب محرر هذه المذكرات التي أصدرتها دار الهلال في السخرية منه، ووصفه بأشد الصفات الرديئة منتحلا صوت الريحاني نفسه، فضلا عن تحميلها بحكايات ليست شريفة مثل تلك الحكايات التي يسردها المحرر عن غراميات نجيب الريحاني في شركة السكر بنجع حمادي، التي تؤدي إلى وعي القارئ أنه كان رجلا فلاتي، وهي حكايات لم يشر إليها الريحاني من قريب أو من بعيد في أي من كتاباته.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق