روح القانون

الجمعة، 03 أغسطس 2018 04:18 م
روح القانون
شيرين سيف الدين

 
كم الاستفزاز التي تسببت فيه إحدى المذيعات التي أجرت لقاءً مع طفل سوهاجي في مدينة بورسعيد لإدانته بتهريب بضائع بمبلغ ١٥٠ جنيها لا يطاق ولا يحتمل ، لا أعلم من هو الذي أخبرها أنها وكيل نيابة أو قاضي أو أن لها حق الضغط على إنسان مضغوط وبائس بهذا الشكل حتى لو كان مخطئا  ؟ نعلم أن الجريمة مهما كان حجمها لا مبرر لها لأنها قد تكون بداية لما هو أسوأ وأكبر ، لكن هناك ما يسمى بروح القانون ، فالحياة أصبحت في منتهى الصعوبة والقسوة .
 
في الحقيقة كانت ردود هذا المدان رغم بساطتها عفوية وموجعة فبرغم صغر سنه يشعر ويعترف بأنه رجل ومسؤول عن أسرة وأن ما فعله كان من أجل إطعام اسرته وكسائها ، فلم يُقبَض عليه للاتجار في المخدرات ولا لاغتصاب فتاة أو قيادة توكتوك دون ترخيص يجوب به الشوارع دون حساب وتسبب في مقتل إنسان ، هذا الشاب مذنب بالطبع لكنه مقتنع أن ما يفعله طبيعي لأنه لا يُهرب سوى بعض قطع الملابس التي من وجهة نظره لن تؤدي الى تدمير أو خراب الدولة ، وكانت له بعض الردود الصادمة والذي يصيب بعضها كبد الحقيقة ، وعندما سألته السيدة حول أسبابه للعمل خارج مدينته أجابها أن بلدته لا يوجد بها فرص عمل ، أحرجها وأحرجني ذلك المذنب عندما أخبرته أنه اختار الطريق السهل لجني الأموال ولا يرغب في التعب الحلال فرفع ذراعه ليريها جرحا ظاهرا به بسبب هذا العمل وهو مقتنع أن عمله متعب وأنه اختار طريقا صعبا ولم يستسهل كما تزعم .
 
مثل هذا الشاب أو الطفل يحتاج من يحتويه ويغير أفكاره وينمي انتماءه ، ولن يحدث هذا إلا بالاهتمام الحقيقي بتعليمه منذ البداية ، وتوفير فرص عمل لعائلته ، وفرص تدريب وعمل تليق بمن هو في سنه ، لن يحدث هذا إلا باتخاذ وقفة حاسمة في قضية الزيادة السكانية فأمثاله يجدون أنفسهم رغم صغر سنهم مسؤولين عن أسر مكونة من أعداد بشرية ولا ذنب لمثل هذا الشاب سوى أنه وجد نفسه موجود في هذه الدنيا دون إرادة ولا رغبة منه .
 
بعد ذلك اللقاء الذي تسبب للأغلبية في مشاعر متداخلة ما بين إدانة المذنب والتعاطف معه ، وهي حالة مشابهة لما نشعر به عند مشاهدة أحد الأفلام ويستطيع فيه المخرج والسيناريست أن يجعلنا متعاطفين مع المجرم لأننا شاهدنا خلفية الجريمة وظروفها وأسبابها رغم أنه لا مبرر أبدا لأي جريمة لكن التعاطف حينها هو الذي يغلب ، فالمشاهد يبرر الجريمة ويرى أن المذنب في الأساس ما هو إلا ضحية .
 
بعد ذلك اللقاء المحزن والمحير تغير الوضع بالتدخل الإنساني للمهندس نجيب ساويرس وتعهده بتوظيف هؤلاء الشباب وتوكيل محامي لهم للتصالح مع الجمارك حفاظا على مستقبلهم .. لذا أتمنى من الدولة ورجال الأعمال في المرحلة المقبلة أن يبدأون في توجيه استثماراتهم للمدن والقرى الصغيرة والمنسية ، فالمشاريع التي يمكن أن تقام في تلك الأماكن كثيرة كمصانع تدوير القمامة أو تطوير الصناعات الصغيرة وغيرها من الأفكار الاستثمارية مثلما فعلت دول نامية كثيرة واستطاعت تحويل مدنا صغيرة وفقيرة إلى عكس ما كانت عليه تماما ، وهذا ما اقترحته المذيعة على ذلك المدان حيث سألته لماذا لا تعمل في (الاستثمار) ولم يفهم أحد أي استثمار تقصد وكيف لهذا البائس أن يستثمر ! 
 
إن الاهتمام بالمدن الصغيرة وضخ جزء من أموال المشروعات بها وبما يناسب ظروفها وتعداد سكانها وقدراتهم ومهاراتهم سيؤدي للاستفادة من طاقات شباب تلك المدن وتعليمهم مهن بدلا من تركهم يسبحون وسط الأمواج دون قارب نجاة واحد فيضطرون للتعلق بقشة ظنا منهم أنها طوق للنجاة ثم يكتشفون أنها مجرد أداة للغرق .
 
ونقف نحن في النهاية حائرين في الحكم عليهم هل هم ضحايا أم مذنبون وهل الأفضل أن يطبق عليهم القانون بحذافيره أم نلجأ لروح القانون ؟
 

 

تعليقات (16)
روح القانون
بواسطة: Ahmed
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 05:53 م

طبعا روح القانون الرحمة حلوة

رائع
بواسطة: نجوى
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 05:55 م

مقال أكتر من رائع هؤلاء الشباب في اشد الحاجة لمد يد العون لا للجلد

ياريت حد يسمع
بواسطة: بوسي
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 05:58 م

الحالة دي تحديدا وما يشبهها تحتاج للرعاية فهو ليس تاجر مخدرات ولا مغتصب فعلا

!!!
بواسطة: عادل
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:00 م

طبعا روح القانون وتلك المذيعة تحتاج للعقاب

لقاء موجع
بواسطة: فادي
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:03 م

اللقاء موجع بشدة يحمل ألم لشاب يشعر بالمسؤولية تجاه أسرته فحاول على قدر عقله للبحث عن عمل مجدي

رائع كالعادة
بواسطة: Dalia
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:05 م

مقال رائع كالعادة وفي الصميم كتاباتك دائما مواكبا للحدث وملامس لرأي الناس

حاجة توجع القلب
بواسطة: أمنية
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:21 م

بجد برافو مقال مبسط وشرح موجز للحالة والظروف التي يمر بها بعض المدانين ويجب الانتباه لتلك القنبلة بشكل عاجل

الله الله
بواسطة: كاريمان
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:23 م

مافيش كلام يتقال بعد الي مكتوب بصراحة في الجون ... بالتوفيق

صحيح
بواسطة: مريم
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:24 م

الغريب أن هناك من يرفض مساعدة شاب مسكين ويطالب بعقابه .. وكان رد هذا الشاب ابلغ رد ( انت ما حاساش بالناس )

لنا الله
بواسطة: Sawsan
بتاريخ: الجمعة، 03 أغسطس 2018 06:26 م

راااااائع ومعبر من أجمل ما قرأت

اضف تعليق