تركيا وحرية الرأى.. تناقضات المشهد

الأحد، 23 ديسمبر 2018 10:00 ص
تركيا وحرية الرأى.. تناقضات المشهد
د. رفعت سيد أحمد يكتب:

مما لاشك فيه أن جريمة قتل الصحفى جمال خاشقجى، مدانة بكل المعانى واللغات، هكذا قال الرأى العام العربى والدولى كلمته، ولكن ما حيرنى فى تلك القضية، وظللت لعدة أسابيع أتابعه وأحلله هو ذلك التعامل التركى مع القضية، والذى بدا للعالم وكأن حكومة أردوغان هى المثال الابرز لحرية الرأى والمدافع الحق عن الصحافة وحقوق الصحفيين، فى الوقت الذى ينبئنا فيه التاريخ بشواهد وحقائق مغايرة تماما لما أرادوا إشاعته فى العالم من خلال التوظيف المحكم لقضية خاشقجى، واستخدامها فى عملية واسعة لغسل السمعة السيئة، لدولة صاحبة باع تاريخى – هى هنا دولة أردوغان لحقوق الصحفيين والمواطنين فى تركيا- طبعا يضاف إلى ذلك الاستثمار الماكر للقضية فى الابتزاز السياسى -تماما مثل واشنطن-، ما يهمنا هنا الجانب المتصل بالحرية الاعلامية وكيف أرادت حكومة أردوغان، استثمار القضية لصالح تجميل صورتها القبيحة والتى دفعت قبل عدة اشهر منظمة العفو الدولية لتقول عن تركيا أنها اضحت فى عهد اردوغان بمثابة أكبر سجن فى العالم للصحفيين، فكيف بالسجان أن يدافع عن السجين؟ كيف به ينفعل كل هذا الانفعال وكأنه لم يرتكب جرائم مماثلة فى حق الاعلاميين والمعارضين؟ كيف له أن يستغفل الرأى العام هكذا وكأن الناس لا تقرأ أو تتابع، أو كأنهم فقدوا الذاكرة؟ على أي حال دعونا نفتح ملف الحريات الاعلامية فى تركيا وبإيجاز حتى لا تختلط الامور على الناس ويحسبون أنهم أمام دولة تحمى الصحفيين وتأخذ بثأرهم حين يعذبون أو يقتلون، والحقيقة غير ذلك تماما.
 
أولا: تنفعل تركيا –وهى فى الواقع تبتز- فى قضية جمال خاشقجى منذ بدايتها وعبر طريقة التسريب التدريجى والادارة الماكرة للملف، لكن هذا الاداء لم يلغ الذاكرة بعد، فتاريخ انتهاك حقوق الاعلاميين من قبل أردوغان، تاريخ حافل بالمثالب التى لا تقل بشاعة عن جريمة خاشقجى، فقبل عدة اشهر، على سبيل المثال، نشر مركز “نسمات” للدراسات الاجتماعية والحضارية بالتعاون مع موقع جريدة “زمان التركية” تقريرا مهما حول الوضع المزرى للصحافة ومعاناة الصحفيين فى تركيا والذى أضحى يدار بقانون الطوارئ.
 
يقع التقرير فى 38 صفحة، ويتكون من خمسة عناوين رئيسية، وهى «حقائق وأرقام»، و«سيطرة الخوف على المشهد الإعلامي»، و«معاناة الصحفيين داخل السجون التركية»، و«أوضاع الصحفيين المعيشية خارج السجون»، و«الصحفيون المشردون فى المنافى»، وذلك بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة وملاحق.
فى المقدمة يقول التقرير نصا: «لقد غدت تركيا من أسوأ دول العالم من حيث التعامل مع الصحفيين، حيث صنفها الاتحاد الدولى للصحفيين بأنها أكبر سجن للصحفيين فى العالم للعام الثانى على التوالى، إذ يمثل الصحفيون المعتقلون فى تركيا، نصف عدد الصحفيين المعتقلين على مستوى العالم»، كما نوه التقرير بأن شدة القمع الذى تمارسه الحكومة فى حق وسائل الإعلام جعلت البعض يصفون ما يحدث بأنه «موت للصحافة».
 
وأكد التقرير أن 319 صحفيًّا معتقلاً يقبعون الان فى السجون منذ صبيحة محاولة الانقلاب ضد اردوغان فى 15/7/2016 وحتى الآن، كما صدرت مذكرات اعتقال بحق 142 صحفيًّا آخرين مشردين فى خارج البلاد، مشيرا إلى أن 839 صحفيًّا حُوكِموا قضائيًّا خلال عام 2017 على خلفية تقارير صحفية أصدروها أو شاركوا فى إعدادها، طبقًا لما أوردته مؤسسة الصحفيين الأتراك.
 
أما عن وسائل الإعلام التى أغلقت خلال العامين الماضيين فقط، فوصل مجموعها حتى الآن 189 وسيلة إعلامية مختلفة، منها: 5 وكالات أنباء، 62 جريدة، 19 مجلة، 14 راديو، 29 قناة تليفزيونية، 29 دارا للنشر هذا فضلا عن كثير من القنوات والإذاعات الكردية واليسارية والعلوية المستقلة، بالاضافة لحجب 127.000 موقعًا إلكترونيًّا، و94.000 مدونة على شبكة الإنترنت..ترى هل يمكن بعد تأمل تلك الارقام والحقائق أن يصدق الرأى العام، بأن هكذا دولة، صادقة فى حملتها للثأر لدم خاشقجى؟ أم أنها -تلك الحملة- ينطبق عليه القول الشهير: كلمة حق يراد بها باطل، والباطل هنا هو تلك الحكومة التركية التى أضحت فاقدة للمصداقية فى مجال الحريات الاعلامية والصحفية، وفاقد الشىء حتما لا يعطيه ولا يحق له التغنى به كما يفعل أردوغان، الآن حيثما حل !...
 
ثانيا: منذ أيام نشرت الوكالة الأمريكية الشهيرة (بلومبرج) تقريرا وثائقيا يحمل عنوان «تركيا ليست نموذجا للمواطن أيضا» أكدت فيه، ان دولة أردوغان هى الاكبر فى العالم فى مجال انتهاك حقوق الصحفيين وتعذيبهم واعتقالهم، وأن من واجب العالم ألا يصدق دموعها المنسكبة فى قضية خاشقجى، لانها مارست مع الاعلام والصحافة وسائل إرهاب مماثلة، وهى استخدمت قضية خاشقجى، ليس للبحث عن الحقيقة وإقامة العدالة، ولكن وبالأساس لتجميل صورتها، وأن كبار القادة الأتراك الذين انتهكوا حقوق الصحفيين فى بلادهم اضحوا بعد قضية خاشقجى يتكلمون وكأنهم اعضاء مؤسسون فى منظمات حقوق الانسان مثل منظمة هيومان رايتس ووتش.
 
وأكد التقرير أن الحكومة التركية تشكل خطرا عظيما على حرية التعبير، والصحافة فى البلاد.
 
ثالثا: إن المعنى والدلالة المهمة التى نستخلصها من تلك التقارير والوثائق الدولية، هو أن مشهد الحريات الاعلامية والصحفية فى تركيا – أردوغان، مشهد حافل بالتناقض وفقدان المصداقية، لأنه يطالب الآخرين بما لم يلتزم هو به فى هذا المجال، تماما مثل موقفها تجاه تمويل وتسليح ورعاية الإرهاب فى سوريا منذ بدء هذا الربيع المزيف (2011) فتركيا حين تدعى محاربة الارهاب، لا تجد من يصدقها على الأرض، فجماعات النصرة وداعش وأحرار الشام وغيرها من الـ120 فصيلا مسلحا فى إدلب شمال سوريا، يدينون فى فاعلية إرهابهم بل وفى بقائهم أحياء، للدعم التركى.. فكيف نصدق أن هكذا دولة تقاوم الارهاب وهى من صنعته على عينها؟ حتى الروس والذين وقعوا معهم اتفاق سوتشى، يرون أردوغان غير صادق فى تعهداته وفى مقاومته المزعومة للارهاب، نفس الأمر ينسحب على قضية الحريات العامة وفى قلبها حرية الإعلام والصحافة، والتى تثبت الحقائق يوميا، فقدان حكومة أردوغان للحد الأدنى من المصداقية، بشأنها، وهو الامر الذى يعطى لهذا السؤال حجيته: كيف بمن ينتهك كرامة مواطنيه من إعلاميين وقضاة وضباط جيش ومدرسين وغيرهم ممن سجنوا وأبعدوا وعذبوا بعد محاولة الانقلاب ضد أردوغان؛ كيف لمثل تلك الحكومة أن تدعى وصلا بالحرية الإعلامية وحقوق الإنسان؟ سؤال برسم الغيب.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق