قضاة الأمة.. إياس ابن معاوية: أول من أسس لفكرة «المبادئ القضائية»

الأربعاء، 08 مايو 2019 08:00 م
قضاة الأمة.. إياس ابن معاوية: أول من أسس لفكرة «المبادئ القضائية»
أرشيفية
علاء رضوان

«أياس بن معاوية المزني»..من فهاء القضاء قال قال عنه أبو تمام الشاعر الشهير: «أقدام عمر في سماحة حاتم في حلم أحنس في ذكاء أياس»، فهؤلاء كل منهم نموذج، أقدام عمر بن العاص في شجاعته وقدرته العسكرية العجيبة، وسماحة حاتم الطائي صاحب الكرم والجود المعروف في البشر، حلم أحنس، الأحنس بن القيس الذي قال عنه النبي صلي الله عليه وسلم، ساد قومه بالحلم، أما إذا ذكر الذكاء فيضرب المثل بـ«أياس» قاضى قضاة زمانه.

من هو أياس بن معاوية المزني هذا ؟

في عهد خلافة عمرو بن عبد العزيز والذي يضرب به المثل في العدل، ذات ليلة ما أستطاع أن تغمض عينه، والسبب هو وفاة قاض البصرة ويريد أن يختار قاض للبصرة، وما هو بالأمر السهل فالبصرة من أعظم المدن الإسلامية في ذلك الوقت ومن أكبرها والمشاكل فيها كثيرة، فهو يحتاج قاض حازم لكن عادل ويقيم العدل ولا تأخذة في الحق رهبة وما يلين أمام الضغوط، وأخذ يفكر في أفضل الناس حتي وصل الأمر عنده الي أثنين كلاهما عنده فقه وذكاء وصلابة في الحق، وأخذ يفكر في هذين الرجلين وهما أياس بن معاوية المزني، والقاسم بن ربيعة الحارسي . 

54270-thumbnail-(8)

وفي الصباح كان والي العراق في زيارة لدمشق مقر الخلافة الأموية وفيها عمرو بن عبد العزيز، فقال له أجمع بينهما وكلمهما في أمر قضاء البصرة، وولي أحدهما عليه، فأجابه قائلا سمعا وطاعة يا أمير المؤمنين .

ولما عاد ولي العراق عدي الي البصرة أستدعاهما وأخبرهما بالخبر قائلا لهما: «أن أمير المؤمنين أطال الله بقائه أمرني أن أولي أحدكما قضاء البصرة»، فقال كل منهما عن صاحبه، وله هو هو أولي مني بهذا ، وبدأ كل واحد منهما يمدح الآخر، كي ينجو بنفسه عن مغبة الظلم في القضاء المشهورة، وبدأ التنافس بين الرجلين عن الهروب من هذا المنصب .  

وبالفعل أحتار والي العراق ثم قال لهما، أحدكما هو القاض، والله، لن تخرجا من مجلسي هذا حتي تحسما هذا الأمر، فقال له أياس، طالما أنك احترت بيننا فدعني أقترح عليك أقتراحا، فعندك فقهاء عظماء في العراق من أكبر فقهاء في الدنيا، الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، فأسألهما عني وعن القاسم ودعهما يختارون . 

20180502010855855

وذكاء أياس في أن القاسم كان يزور العالمين وكانت علاقته بهما وثيقة جدا، فعلم أنه لو سألهما الوالي فسيرشحان القاسم لأنهما يعرفانه أكثر منه، فأنتبه القاسم إلي أن أياس يريد أن يورطه في القضاء، ولكي يخرج نفسه أسرع قائلا للأمير، يا أيها الأمير لا تسأل أحدا عني ولا عنه، فوالله الذي لا أله إلا هو أن أياس أفقه مني في دين الله وأعلم بالقضاء .

 فأقسم قسما شديد ثم قال يا أيها الأمير أنا أقسمت إن كنت كاذبا في قسمي هذا فلا يحل لك أن توليني القضاء وأن اأقترف الكذب، وإن كنت صادقا في قسمي هذا فلا يجوز أن توليني لأنه أفضل وأعلم مني بالقضاء فلا يجوز أن تترك الأفضل وتذهب الي المفضول .

فأجاب الأمير، صحيح.. وهنا شعر أياس بالورطة فألتفت الي الأمير وقال، أيها الأمير جئت برجل ودعوته الي القضاء وهو يعتبر القضاء علي حافة جهنم، فنجي نفسه منها بيمين، يستغفر الله منها ويكفر عنها فيما بعد، فالآن الأمير والي العراق قال له، والله إن من يفهم فهمك يا أياس لجدير بالقضاء، ومن هنا تولي أياس قضاء البصرة ...من هذا أياس بن معاوية المزني ؟؟ قاض البصرة، وصاحب الذكاء الفريد . 

11102

معالم حياته:

ولد إياس بن معاوية بن قرة بن المزني، وكنيته أبو وائلة، في العام السادس والأربعين من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولجد أبيه «المزني» صحبة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإياس معدود في التابعين، وتعلم إياس في صغره على يد أبيه «معاوية» الذي أحفظه القرآن في سن مبكر من حياته، كما روى له كثيراً من الأحاديث النبوية وبعث به ليتعلم أيام العجم وأخبارهم إلى مكتب لرجل من أهل الذمة مشهود له بالكفاءة في ذلك.

وتعلم إياس الفقه والتفسير والحديث على كبار علماء البصرة وفي مقدمتهم التابعي الجليل الزاهد الإمام «الحسن البصري» المتوفى سنة 110هـ، والإمام محمد بن سيرين المتوفى أيضاً عام 110هـ أيضاً والمشهود له بالقدرة على تأويل الأحلام مع نصيب كبير من الفراسة.

القضاء فهم: فخص الله سليمان بفهم القضية وعمها بالعلم.

وقد سأل رجل إياس بن معاوية أن يعلمه القضاء، فقال له أن القضاء لا يعلم، إنما القضاء فهم، ولكن قل علمني العلم، وفى هذا قد أصاب إياس رحمه الله، فالعلم يمكن تحصيله، ولكن الفهم هو قدرة القاضي على فقه الواقع وأحوال الناس، وتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل وأنزل حكم الشرع على حقيقة الواقع فيحقق العدل. 

201805210249154915

ومن فهم القضاء أيضاً ألا يتأثر القاضي بشائعات الناس وأقوالهم حول القضية المطروحة أمامه أو بما تنشره الصحف والمجلات أو تبثه الإذاعة أو يعرضه التليفزيون في عصرنا وقد نصح إياس غيره من القضاة فقال له: إياك وما يتتبع الناس من الكلام وعليك بما تعرفه من القضاء.

موقف إياس من الشهادة:

كان إياس بن معاوية يمحص الشاهد وشهادته، فإذا اطمئن إليها، واقتنع أنها تمثل الحقيقة أخذ بها وإلا طرحها.

وكان يقول: لست بخب والخب لا يخدعني. ويضاعف من قيمة إياس في نظرنا أنه لم يؤخذ برأي شيخه الحسن البصري في الشهادة إذ كان الحسن يرى أن كل مسلم مقبول شهادته ما لم يجرحه المشهود عليه فقد أقبل رجل إلى الحسن فقال: إن إياساً رد شهادتي، فقام معه الحسن فقال: يا أبا وائلة لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم «من صلى إلى قبلتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا».

فقال له إياس: يا أبا سعيد يقول الله تعالى: « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ » [البقرة: 282]،  وهذا ممن لا نرضاه، وقد فهم إياس الآية حق فهمها وإنها تضع للقضاة في كل زمان ومكان أن القاعدة في الشهادة حق اقتناع القاضي بها واطمئنانه إليها.

وكان لهذه القاعدة إشعاعتها وأثرها إذ امتدت إبان الحضارة الإسلامية في الأندلس إلى دول الديمقراطية الغربية ودخلت في تشريعاتها الإجرائية بعد أن كانت تسودها الشكلية الموروثة من القانون الروماني، ثم ردت إلينا فيما نقلناه من تشريعات إجرائية عن فرنسا وبلجيكا وان كان الواجب علينا أن نرد تشريعاتنا إلى أصولها بالالتزام بأحكام ومبادئ الكتاب والسنة التشريعية العامة. 

1917069_163447417350811_5064678409452430160_n

من قضايا إياس وفقهه:

سجلت مدونات أخبار القضاة كثيراً من القضايا يالإياس ووصفه صاحب حلية الأولياء - أبو نعيم الأصبهاني- أنه صاحب الأحكام الماضية، وهي تعني بأسلوب العصر ولغته إن أحكام إياس تعد مبادئ وسوابق قضائية لا اختلاف عليها.

كما أنه من بين المواقف التى دلت على فراسته حينما اختصم عنده رجلان حيث اشتكى أحدهما من أن الآخر استبدل ملابسه، حيث إن لون لباسه لونه أحمر ولون لباس الآخر أخضر فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتى، ثم جاء هذا، فوضع قطيفته تحت قطيفتى ثم دخل فاغتسل، فخرج قبلى وأخذ قطيفتى ثم خرجت فاتبعته، وحينما سألته لماذا أخذها فزعم أنها قطيفته، فسألك إياس: ألك بينة؟ فرد الرجل لا، فأحضر إياس مشطا، فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر ومن رأس الآخر صوف أخضر، فقضى بالحمراء، للذى خرج من رأسه الصوف الأحمر، وبالخضراء للذى خرج من رأسه الصوف الأخضر.

محنة إياس القضائية:

ترجع أسباب هذه المحنة إلى أن والي البصرة عدي بن أرطاة انتصر لأحد الرعية برد زوجته إليه وقضى إياس على خلاف ما يريده، فقد كان إياس مثلاً للقاضي الذي لا يتبع الهوى ولا يخشى في الحق لومة لائم. 

201805190134293429

وتتحصل الواقعة في أن المهلب بن القاسم الهلالي كان ماجناً يشرب الخمر، وقد طلب من زوجته «أم شعيب بنت محمد الطائي» أن تشاركه شرابه، فأبت، فوضع أمامها قدحاً منه وأقسم عليها: أنها طالق بالثلاث إن لم تشربه، وكان لديها بعض النسوة حاولن أن يحملنها على شربه، ويبررن لها الأمر فلم يزدها ذلك إلا إصراراً. وكان في البيت طير واجن «أي ينام على بيضه ليفقس» فمر الطير بالقدح فكسره.

فقامت المرأة: وحمدت الله أن خلصها من ذلك الزوج الشرير وطلبت أهلها فحولوها إليهم ولكن المهلب جمد وقال لم أطلقها، ومضى والد المهلب إلى عدي بن أرطاة وقال: غلبوا ابني على امرأته، فأمر الوالي بردها إليه.

ولكم المرأة لم ترض هذا القرار، وهي تؤمن بأن العدل قائم طالما إن إياس القاضي في البصرة، فخاصمت زوجها إليه وشهد أربع من النسوة بما حدث، فحكم إياس بوقوع الطلاق البائن بينونة كبرى لأنه كان يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد يقع ثلاثاً- وهو الرأي السائد في الفقه على خلاف اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى أنه لا يقع إلا طلقة واحدة رجعية.

وجدير بالإشارة أن معظم التشريعات في الدول العربية حديثاً قد انتصرت لرأي ابن تيمية عدا المملكة العربية السعودية التي تتبنى معظم اجتهاداته:-

وقال إياس لزوجها: لئن قربتها لأرجمنك.

وما أن رأى الوالي حكم إياس حتى دبر لعزله وتوقع الحد عليه بمقوله أنه قذف المهلب واصطنع للأمر شاهدين، وكان القاسم بن ربيعة - المرشح من قبل لمنصب القضاء- موجوداً فاستخلفه عدي بن أرطاة ألا يعلم إياس بما دبر له، ولم يجد القاسم من وسيلة إلا أن مر على إياس عند عودته ليلاً فقالوا له: من؟ قال: القاسم بن ربيعة كنت عند الأمير فأحببت أن لا أصل إلى منزلي حتى أمر بك ومضى لسبيله.

وقد فهم إياس بذكائه أن الوالي دبر له بليل مؤامرة أحكمت خيوطها فعزر هارباً إلى واسط.

فعلم بأمره واليها عمر بن هبيرة، فطلبه، ومضى إياس إليه فسأله: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: أتفرض الفرائض؟ قال: نعم، قال: أتعرف من أيام العرب شيئاً؟ قال: نعم قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قال: أنا بها أعرف.

فقال له الوالي: إني أريد أن أستعين بك على عمل.

فقال إياس: إن في خلال ثلاث لا أصلح معها للعمل؟!

قال: ما هي؟ قال إياس: دميم كما ترى، وحديد، وعى فقال الوالي: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العي فإني أراك تعبر عن نفسك وأما الحدة فإن السوط يقومك.

وأمر بتعيين إياس والياً على سوق واسط فحمل الأمانة وأدى الرسالة، وحقق العدل والأمن وسعدت به واسط بيد أن الحال لم يدم فقد عين أميراً آخر لواسط هو يوسف بن عمر وكانت له بعض مآرب في السوق ود أن يحققها له إياس فأبى العمل كلية فكان نصيبه الضرب العلني ستة وخمسين سوطاً تعزيراً بمقوله هذا الواجب تعين في إياس وامتنع عن القيام به.

 دفع شبهات عن إياس:

نسب إلى إياس التسرع في القضاء بين الخصمين، فسألهم إياس: خمسة أكثر أو ستة فقالوا: ستة قال: لقد أسرعتم في الجواب، قالوا: ومن يشك في خمسة أو ستة، فقال: فأنا لا أشك في ذلك الدقيق كما لا تشكون أنتم في هذا الجليل، فما لي أدفعه عن حقه.

 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق