صلاة فى محراب المحبوبة

السبت، 20 يوليو 2019 12:55 م
صلاة فى محراب المحبوبة
حمدى عبدالرحيم يكتب:

كانت الحياة تقسو على الكاتب الكبير الأستاذ صلاح عيسى، فُيفصل من عمله، أو يُنتزع من بيته إلى السجن، فإذا غادره عائدًا إلى دنيا الناس لم يجد سوى البطالة. فى أيام البطالةـ وما أقساها على النفس ـ لم يكن الأستاذ صلاح، يسقط فى هوة رثاء الذات وفخاخ التحسر على ما مضى، كما لم يكن يقفز فى الفراغ، شأن الذين يريدون التخلص من مواجعهم عبر مواجهات خائبة يعودون منها ـ إن عادواـ وقد تحطمت قلوبهم. 

أيام بطالة الأستاذ صلاح، كانت هى أيام الترفيه التى يعيشها!
 
 ليس فى وصفى مبالغة، فقد عرفته وسمعت منه كثيرًا، كان يصحو مبكرًا كأنه مرتبط بعمل مهم، ويغادر مسكنه عاقدًا العزم على إقامة  صلاة صوفية فى محراب المحبوبة، وما كانت المحبوبة سوى مصر العظيمة المقاومة.
 
صلاة العم صلاح، كان يقيمها فى أروقة ودهاليز كل مكان توجد به المجموعات النادرة من الكتب والمجلات والجرائد والنشرات، وكل ما له علاقة بتاريخ المحبوبة.
 
لم يكن يغادر تلك القاعات إلا مجبرًا، فى ساعات إقامته بالقاعات، كان ينخرط فى صلاته لا يصرفه عن خشوعه شىء، كانت صلاته هى جمعه لكنوز مخبأة بين سطور جرائد كاد الزمان يذهب بحبر طباعتها.
 
كانت الكنوز تطول أحيانًا، لتصبح دراسات ومقالات، وكانت تقصر أحيانًا لتصبح ومضات، ولكنها فى كل الأحايين، كانت تبحث عن مصر التى لا يعرفها أحد، والتى ينسج صلاح من حكاياتها الكبيرة والصغيرة سجادة صلاته. 
 
أصدرت «دار الكرمة» مؤخرًا كتاب الأستاذ صلاح عيسى «هوامش على دفتر المقريزى»، يضم الكتاب مائة وثمانين حكاية قصة قصيرة جدًا من قصص مصر ورجالها ونسائها، تبدأ القصص من عصر المماليك، وتصل إلى أحداث ثورة 1919.
 
لو كان الأمر بيدى لفرضت هذا الكتاب فرضًا على طلاب المدارس أو على دارسى التاريخ بالحد الأدنى، فالكتاب ليس ممتعًا فحسب، ولكنه عميق جدًا، ويأتى عمقه من براعة الأستاذ صلاح فى الكشف عن جوهر الشخصية المصرية، تلك الشخصية التى زمامها بيدها هى، فهى التى تقرر متى تتحدث ومتى تصمت، ومتى تعارض ومتى تؤيد، ومتى تنام هادئة، ومتى تنتفض انتفاضة عارمة.
 
من بين قصص الكتاب التى تكشف عن منهج كاتبه فى التقاط كنوز مصر، قصة الثائر المشرد.
 
عندما ثارت مصر فى عام 1919، ثارت بكل طوائفها، نعم كان المتعلمون فى المقدمة، ولكن حتى المتشردين شاركوا، يحكى الأستاذ العقاد أن ثلاثة عشر شابًا مصريًا لا يعلم عنهم أحد شيئًا تناوبوا رفع العلم، يسقط شاب برصاص الإنجليز، فيسارع صاحبه بالتقاط العلم لكى لا يسقط علم المحبوبة على الأرض، وما سقط العلم أرضًا إلا بعد استشهاد الشاب الثالث عشر.
 
من بين حاملى العلم، كان الشاب محمد الذى حملته سيارة الإسعاف إلى قصر العينى، وهو بين الحياة والموت، وهناك كشف عليه أعظم جراحى مصر على باشا إبراهيم، وسأله: أى عمل تعمل؟.
 
فأجابه الشاب مبتسمًا: لا عمل لى لأنى مشرد.
 
بات الشاب محمد ليلته فى قصر العينى، وكانت تهاجمه الحمى فيصرخ: «اثبت يا شيخ على، العلم يا محمد، العلم يا شيخ على».
 
عندما جاء الصباح، كان الشاب قد لفظ آخر أنفاسه.
 
عندما جاءت أسرة الشاب لتتسلم جثته كانت المفاجأة، لم تكن أسرته سوى أمه «توحيدة الإنجليزية».
 
سأترك بقية المساحة لقلم الأستاذ صلاح ليكمل لنا القصة: «كانت توحيدة قد أخذت لقبها، لأنها كانت الغانية المفضلة لجنود جيش الاحتلال وضباطه، وكان المنزل الذى تديره فى حى البغاء، يتفنن فى تقديم المتعة لهم، لدرجة أن أصبح لقب «الإنجليزية» مشهورًا ومعروفًا فى حى البغاء، بل فى مصر كلها، وطوال سنوات الحرب الأولى، فتحت توحيدة بيتها للترفيه عن جنود الاحتلال، الذين كانوا يقيمون فى القاهرة، أو يعودون إليها فى إجازات قصيرة، يشربون الخمر، وينالون المتعة، ويقيمون حفلات الرقص الشرقى، ويستمتعون بكل ما يتيحه لهم وضعهم المتسلط باعتبارهم حكام مصر الحقيقيين، وتسلمت توحيدة جثة ابنها الصبى، ودفنته من دون دمعة، وفى اليوم التالى، أقامت فى منزلها حفلة كبرى، دعت إليها مجموعة كبيرة من أصدقائها الإنجليز، وتحدث حى البغاء كله بالحفلة الفخمة، التى أريقت فيها الخمور، وسالت أنهارًا، وارتفعت نغمات الموسيقى، وملأت الضحكات أرجاء الحى السعيد. فى صالة المنزل، كانت توحيدة تضحك وترقص، وهى فى قمة فتنتها، وأخذت تترامى على ضيوفها الإنجليز معابثة، تمنح القبلات واللمسات، وتخطف غطاء الرأس من واحد لتضعه فوق رأس آخر. وأخيرًا أخذت مسدسين من وسط أحد الضباط، وأخذت ترقص بهما، وفى غيبة الوعى لم ينتبه أحد لما تفعل، وابتهج رواد الحفل بمشهدها، لقد أصبحت توحيدة إنجليزية فعلًا، الكاب على رأسها والمسدسات فى يديها. وفجأة انطلق الرصاص، وأصيب كثيرون من الجنود والضباط، وقتلت توحيدة ضيوفها الأعزاء. وفى الصباح كانت قد لفظت أنفاسها فى قصر العينى. ويعلق الدكتور على إبراهيم، الذى روى الحكاية، قائلًا: «تنازلت توحيدة عن لقب الإنجليزية بالدم، أصرت على أن تموت وهى توحيدة المصرية».
 
انتهت القصة، فهل تستحق مصر؟.
 
نعم تستحق دماء رقابنا جميعًا، فهى الحبيبة العظيمة المقاومة دائمًا.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق