يوسف أيوب يكتب: لماذا اختارت مصر التصعيد الدبلوماسي في أزمة سد النهضة؟

السبت، 05 أكتوبر 2019 03:00 م
يوسف أيوب يكتب: لماذا اختارت مصر التصعيد الدبلوماسي في أزمة سد النهضة؟
سد النهضة

الهدف نقل المشكلة من مستوى ثنائى وثلاثى إلى مجال طرح أكبر بمشاركة المجتمع الدولى

مصر تسعى للتوصل إلى اتفاق يحقق المصالح المشتركة لشعوب نهر النيل الأزرق

الرسالة المصرية للإثيوبيين أن استمرار التعثر فى مفاوضات السد ستكون له انعكاساته السلبية على الاستقرار والتنمية فى المنطقة

المجتمع الدولى عليه مسئولية كبيرة للقيام بدور بناء فى حث الأطراف على التحلى بالمرونة سعيا للتوصل لاتفاق مرض للجميع

لسنا ضد إقامة السدود لكن ليس على حساب مصر والإضرار بها.. وأولوياتنا التوصل إلى حل عادل

مصر دخلت المفاوضات مع إثيوبيا دون شك فى نوايا أحد وستواصل سياسة الحوار

قبل الرابع والعشرين من سبتمبر الماضى كانت مصر تفضل السير فى طريق التفاوض مع إثيوبيا إلى ما لا نهاية فى مسألة سد النهضة، وشهدت القاهرة وأديس أبابا وعواصم أخرى لقاءات مكثفة بين الجانبين بالإضافة إلى السودان، وكان الرئيس عبدالفتاح السيسى شديد الحرص على عودة الثقة مع الأشقاء الإثيوبيين، خاصة بعد الاجتماع الكارثى الذى دعا له المعزول محمد مرسى، وشهد كوارث أضرت بمصر خارجيا، خاصة مع القارة الأفريقية.

دخلت مصر فى مفاوضاتها مع الإثيوبيين وهى مقتنعة بمبدأ مهم، وهو الإقرار بحق كل دول حوض النيل، وتحديدا إثيوبيا فى التنمية، مع التأكيد فى الوقت نفسه على أن مياه النيل بالنسبة لمصر مسألة حياة وقضية وجود، وذهب الرئيس السيسى فى 25 مارس 2015 إلى البرلمان الإثيوبى، مخاطبا من على منصته جموع الإثيوبيين، قائلا لهم: «إنها لحظة تاريخية فارقة تلك التى أقف فيها أمامكم فى بيت الشعب الإثيوبى، لأحمل لكم رسالة أُخُوَّة صادقة ومحبة خالصة، وأيادٍ ممدودة بالخير تنشد التعاون من أجل التقدم والرخاء من أخوتكم فى مصر، الذين تطلعوا معكم لتلك اللحظة، التى تجسد إرادة سياسية متبادلة للحوار والتواصل والتعاون على كل المستويات ومن خلال مختلف المحافل، فنحن ومنذ بدء التاريخ ننهل ونرتوى من نهر النيل العظيم، الذى أجراه الخالق ليحمل الحياة والنماء لشعوب حوضه.. إنه النهر الذى باتت مياهه تجرى دماء فى عروق المصريين والإثيوبيين الذين سيظلون دوما أشقاء، ولن يسمحوا لأى خلاف بأن يدب بينهم أو أن ينال من قوة الروابط التى تجمعهم».
ودعا الرئيس السيسى، الإثيوبيين إلى العمل معا لوضع «ركائز مستقبـل أفضل لأبنائنـا ولأحفادنـا.. مستقبل تضاء فيه كل فصول المدارس فى إثيوبيا، ويشرب فيه كل أطفال مصر من نهر النيل كعهد آبائهم وأجدادهم.. مستقبل يتسع فيه اقتصاد البلدين ليستوعب قوتهما العاملة بما يضمن العيش الكريم لشعبينا ويحقق الإنتاج الوفير لبلدينا، ولكى يستعيدا مكانتهما بين الأمم بما يتسق مع تاريخهما وقدراتهما، فلا ينبغى أبدا أن يأمن أحدنا على مستقبله دون الآخر، أو أن يبنى رفاهيته على حساب أخيه، فكما أن لبلدكم الشقيق الحق فى التنمية، وفى استغلال موارده لرفع مستوى معيشة أبنائه، وكما لا ينبغى أن يشهد القرن الحالى مشاهد الجفاف والمجاعة التى أدمت قلوبنا جميعا وتألمنا لها فى القرن الماضى، فإن لأخوتكم المصريين أيضا الحق ليس فقط فى التنمية ولكن فى الحياة ذاتها، وفى العيش بأمان على ضفاف نهر النيل الذى أسسوا حوله حضارة امتدت منذ آلاف السنين ودون انقطاع».
منذ هذه اللحظة وصلت الرسالة المصرية إلى الأشقاء فى إثيوبيا، وانفتحت مصر على مفاوضات مطولة حول سد النهضة ولم تشك مصر ولو للحظة واحدة أن مصير هذه المفاوضات هو الفشل أو التعثر، لأنها كانت ترى أن المستقبل ينتظرنا جميعا، مصريين وإثيوبيين وسودانيين، وزاد من ذلك أن القيادة الإثيوبية الجديدة جاءت حاملة نفس رسالة الأخوة، وهو ما زاد من ارتياحنا بأن إثيوبيا معنا فى نفس الفكر والخط، وأن الهدف ليس الصدام، بل التعاون لتحقيق التنمية والأمن للجميع.
لكن مع سير المفاوضات وعقد الاجتماعات بدأت المشاكل تطفو على السطح، ومن هنا ظهرت العقبات التى كنا نخشاها فى الماضى، وسبق وأن حذرت مصر كل الأشقاء فى دول حوض النيل من الانزلاق فى مستنقع الخلافات، لأنها لن تكون أبدا فى صالح الشعوب المتعطشة للتعاون والتنمية.
حتى فى ظل الخلاف والتعثر رفضت مصر مبدأ الصدام، واختارت أيضا أن تواصل السير فى طريق الحوار والتفاوض، مع وضع الجميع فى صورة ما يحدث، فمن على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، خرج الرئيس السيسى للمرة الأولى ليؤكد للعالم أن «مصر سعت على مدار عقود إلى تعزيز وتعميق أواصر التعاون مع أشقائها من دول حوض النيل التى ترتبط معهم بعلاقات أزلية، وتأكيدا لحرصها على رفعة شعوب حوض النيل الشقيقة، أعربت مصر عن تفهمها لشروع إثيوبيا فى بناء «سد النهضة»، رغم عدم إجرائها لدراسات وافية حول آثار هذا المشروع الضخم، بما يراعى عدم الإضرار بالمصالح المائية لدول المصب، ومنها مصر، بل بادرت مصر بطرح إبرام اتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة مفاوضات امتدت لأربع سنوات، للتوصل لاتفاق يحكم عمليتى ملء وتشغيل سد النهضة».
وأكمل الرئيس السيسى حديثه بقوله « إلا أنه – ومع الأسف – لم تفض هذه المفاوضات إلى نتائجها المرجوة. وعلى الرغم من ذلك، فإن مصر ما زالت تأمل فى التوصل لاتفاق يحقق المصالح المشتركة، لشعوب نهر النيل الأزرق فى إثيوبيا والسودان ومصر.. إن استمرار التعثر فى المفاوضات حول سد النهضة ستكون له انعكاساته السلبية على الاستقرار، وكذا على التنمية فى المنطقة عامة، وفى مصر خاصة، فمع إقرارنا بحق إثيوبيا فى التنمية، فإن مياه النيل بالنسبة لمصر مسألة حياة وقضية وجود، وهو ما يضع مسئولية كبرى على المجتمع الدولى للاضطلاع بدور بناء، فى حث جميع الأطراف على التحلى بالمرونة، سعيا للتوصل لاتفاق مرض للجميع».
حديث الرئيس السيسى عن سد النهضة من على منصة الأمم المتحدة جزء من سياسة الشفافية والمكاشفة التى يتبعها الرئيس مع المصريين والعالم كله فيما يتعلق بسياسات مصر الخارجية وأيضا أوضاعها الداخلية، فرغم أن هناك من كان يريد السير فى طريق المواجهة غير المعلنة، كان للرئيس رأى آخر، وهو أن المكاشفة مطلوبة، وحتى يكون المجتمع الدولى حكما عدلا فى هذه القضية المصيرية بالنسبة لنا كمصريين، أخذا فى الاعتبار أن عددا من الدول الأوروبية تحديدا، تعد من كبار المانحين لمشروعات مجرى النيل فى دول الحوض، ومن المهم وضعهم فى صورة وحقيقة ما يحدث، كما أن مصر رغم أن الحق والقانون الدولى والمنطق أيضا يقف فى صفها، لكنها فى نفس الوقت لا تريد المواجهة الحتمية مع الأشقاء، لأن هدفنا واضح منذ البداية، أن يكون نهر النيل مصدرا للتنمية والتعاون وليس الصدام، وهو ما يظهر من السياسة المصرية التى لم ولن تغلق الباب فى وجه التفاوض مع أشقائنا فى إثيوبيا، لكن فى نفس الوقت نحتاج إلى إدراك من الإثيوبيين لحقيقة ما تمثله قضية المياه بالنسبة لمصر والمصريين.
وبخلاف ما قاله الرئيس السيسى أمام الأمم المتحدة، كانت نيويورك فرصة أيضا للتأكيد على الموقف المصرى فى مسألة سد النهضة، فقد أكد الرئيس السيسى خلال حواره مع الشخصيات الأمريكية المؤثرة داخل المجتمع الأمريكى، أن أى دولة لا يمكن أن تتعرض لمخاطر مثل المخاطر المرتبطة بنقص المياه، إلا إذا كانت فى حالة ضعف، مدللا على ذلك بما حدث للعراق الذى كان يصله نحو 100 مليار متر مكعب من المياه عام 90، بينما لا يصله حاليا أكثر من 30 مليار متر مكعب سنويا، موضحا أن أحد التحديات التى واجهت الدولة نتيجة أحداث ٢٠١١ هو إقامة مشروع سد النهضة ليؤثر على مصر وأبنائها، وكان من المفترض أن يتم إقامة مفاوضات مع الجانب الإثيوبى لو كانت الدولة المصرية متواجدة فى هذا التوقيت، مضيفاً: «عندما ضعفت الدولة المصرية كان هناك ثمن دفعه المصريون وستدفعه الأجيال القادمة».
وتابع الرئيس: «إحنا مش ضد التنمية، إحنا عايزين كلنا نعيش وكلنا ننمو، وكل بلد لديها تحديات، ونحن لسنا ضد إقامة السدود، لكن ليس على حساب مصر والإضرار بها»، وقال إنه يجب الحفاظ على حصة مصر من المياه، وقد اتفقنا مع الجانب الإثيوبى فى 2011 خلال الاتفاق الإطارى على أسلوب ملء خزان سد النهضة، لكن للأسف لم تستطع اللجان الفنية حتى الآن الوصول إلى اتفاق فى هذا الأمر، مشددا على أنه «لن يتم تشغيل السد بفرض الأمر الواقع، لأننا ليس لدينا مصدر آخر للمياه سوى نهر النيل»، مشيرا إلى أن 95% من مساحة مصر صحراء، وأن أى إضرار بالمياه سيكون له تأثير مدمر على المصريين، مشددا: «نحن مسئولون عن أمن مواطنينا».
وأكد الرئيس أن مصر دائما تتبنى سياسة تتسم بالحوار وبدأنا التصعيد دبلوماسيا لننقل المشكلة من مستوى ثنائى وثلاثى حتى نصل إلى مجال طرح أكبر، وقال إنه لا بد من الوصول إلى اتفاق تصر عليه مصر، حتى نتحكم فى الضرر الذى يمكن أن نتحمله ببناء هذا السد، مشيرا إلى أن مصر فى مستوى الفقر المائى، وسيتزايد نتيجة تزايد عدد السكان فى مصر، وثبات حصتنا من مياه النيل.
كما شهدت نيويورك لقاءات ثنائية لوزير الخارجية سامح شكرى كان الهدف الرئيسى منها وضع الجميع فى صورة ما يحدث، فقد التقى سامح شكرى نظيرته الجنوب سودانية «أوت دينق أشويل»، ونظيره البوروندى «ايزيكيال نيبيجيرا»، حيث أطلعهما فى لقاءين منفصلين على مُستجدات مفاوضات سد النهضة الإثيوبى، مُعربا عن عدم ارتياح مصر لطول أمد المفاوضات، حيث تم التأكيد على أهمية سير عملية التفاوض بحُسن نية بما يُساعد على التوصل لاتفاق عادل ومنصف ويُراعى مصالح الدول الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان، وشدد وزير الخارجية البوروندى من جانبه على تفهم بلاده لموقف القاهرة وأهمية نهر النيل كمصدر وحيد لحياة الشعب المصرى.
كما أكد شكرى لـ«ستيف بلوك» وزير الخارجية الهولندى، عدم ارتياح الجانب المصرى لطول أمد المفاوضات، مؤكدا على أهمية التوصُل إلى حل عادل يحفظ مصالح كل الأطراف ويحد من حجم الأضرار.
وفى القاهرة عقد السفير حمدى سند لوزا، نائب وزير الخارجية للشئون الأفريقية، اجتماعين بوزارة الخارجية مع سفراء الدول العربية وسفراء الدول الأفريقية المعتمدين لدى القاهرة، لإحاطتهم علما بمستجدات المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، وأوضح أن جولة المفاوضات الأخيرة التى عُقدت بالقاهرة يوميّ 15 و16 سبتمبر على مستوى وزراء المياه بالدول الثلاث لم تحرز أى تقدم ولم تشهد أى نقاشات فنية بسبب رفض إثيوبيا النظر فى الرؤية المصرية لقواعد ملء وتشغيل سد النهضة وإصرارها على قصر النقاش على الورقة التى كانت إثيوبيا قد تقدمت بها فى 25 سبتمبر ٢٠١٨.
واستعرض نائب وزير الخارجية مجمل الموقف المصرى من المفاوضات وعناصر الطرح المصرى لقواعد ملء وتشغيل سد النهضة والذى يعد طرحا عادلا ومتوازنا ويمكن إثيوبيا من تحقيق الغرض من سد النهضة، وهو توليد الكهرباء، دون الإضرار بالمصالح المائية لدول المصب، وخاصةً مصر التى تعتمد بشكل كامل على النيل لتلبية احتياجاتها المائية، مبرزا ما ورد فى بيان الرئيس السيسى، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخرا، والذى تضمن تأكيد مصر على حرصها على تعميق أواصر التعاون مع دول حوض النيل وتفهمها لقيام تلك الدول، ومنها إثيوبيا، ببناء مشروعات على نهر النيل لخدمة خططها التنموية، إلا أن ذلك يجب أن يتم دون الإضرار بمصالح مصر والتى يمثل النيل بالنسبة لها مسألة حياة وقضية وجود.
ودعا السفير حمدى سند لوزا ، إثيوبيا للانخراط خلال الاجتماع المزمع عقده خلال أيام بالخرطوم، للجنة الفنية المعنية بملف سد النهضة، فى مفاوضات فنية جادة تتناول الطرح المصرى لقواعد ملء وتشغيل السد وأية أفكار وأطروحات أخرى قد تسهم فى تقريب وجهات النظر، وتساعد على التوصل لاتفاق عادل ومنصف ويراعى مصالح الدول الثلاث.
كما تحركت مصر على الصعيد الدولى من خلال مجلس حقوق الإنسان الدولى، حيث ألقى السفير علاء يوسف، المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة فى جنيف، كلمة أمام المجلس الأسبوع الماضى، شدد خلالها على مركزية الحق فى مياه الشرب كحق من حقوق الإنسان الأساسية لا يقل أهمية عن سائر الحقوق الأخرى مثل الحق فى الحياة، مؤكدا على أن استغلال الموارد المائية بصورة غير مستدامة على نحو يحرم الغير من الاستفادة منها أمر لا يمكن قبوله، خاصة فى ظل تنامى ظاهرة الشح المائى على مستوى العالم، وطالب السفير علاء يوسف بإجراء تقييم دقيق للآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية للمشروعات التنموية الكبرى التى تشيدها الدول على مجارى الأنهار الدولية التى تمر فى أراضيها، وتفادى إحداث أية أضرار بدول حوض النهر الأخرى، خاصة تلك التى تعتمد بدرجة رئيسية على الموارد المائية النهرية، مؤكدا أيضا أهمية عدم تجاهل الآثار الأخرى للمشروعات الكبرى التى تشيدها الدول على مجارى الأنهار العابرة للحدود، والتى ترتبط بصورة وثيقة بظاهرة التغير المناخى ومظاهرها.
وطالب مندوب مصر الدائم بمحاسبة الشركات الكبرى التى تقوم بإنشاء تلك المشروعات متجاهلة الدراسات التى تتناول آثارها السلبية، أو بالمخالفة للقواعد النافذة دوليا أو إقليميا أو محليا التى تنظم تشييد تلك المشروعات على مجارى الأنهار الدولية.
 كل هذه التحركات من جانب الإدارة المصرية تؤكد مجموعة من المبادئ الهامة، وهى أننا نقف مع حق الإثيوبيين فى التنمية، وأن الحوار والتفاوض هما الطريق الوحيد الذى سيفضى إلى إيجاد الحلول بعيدا عن التعصبات والتشجنات، وأن حل هذه المسألة يتطلب إدراكا من جانب إثيوبيا بمشاغل مصر تجاه قضية المياه.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة