ماذا يريد بوتين من المملكة العربية السعودية؟

الإثنين، 14 أكتوبر 2019 07:28 م
ماذا يريد بوتين من المملكة العربية السعودية؟
د. مغازي البدراوي

الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز لروسيا في الخامس من أكتوبر 2018، وردود الفعل الواسعة حولها، تعكس مدى أهمية التقارب والتعاون المشترك بين هذين البلدين الكبيرين اللتين يعول عليهما العديد من الدول والشعوب الكثير من الآمال، كما جاءت هذه الزيارة بعد طول انتظار لها وجدل كثير حول احتمال إلغائها لم يتوقف حتى قبل وصول العاهل السعودي لموسكو بأسبوع واحد، ويرجع هذا الجدل والتشكك في إتمام هذه الزيارة إلى تصور البعض وجود العديد من الخلافات بين موسكو والرياض في عدة قضايا، مثل الأزمة السورية والأزمة القطرية، والأزمة اليمنية، والعلاقات بين روسيا وإيران، كما تصور البعض احتمال وجود ضغوط من واشنطن للحيلولة دون إتمام هذه الزيارة التي تنتظرها روسيا وتستعد لها بشكل كبير وتضع عليها أمالاً واسعة في انطلاق العلاقات الثنائية بين البلدين.

لقد تمت الزيارة ونجحت نجاحا كبيراً، بل يمكن القول أنها حققت أهدافها التي تريدها البلدان، وهذه الأهداف ليست كما يتصور البعض "الصفقات التجارية أو الاستثمارات أو صفقات السلاح أو غيرها من هذا القبيل"، فكل هذه الأمور لا تحتاج لقاء الملوك والرؤساء الكبار، بل تتم عبر الوزراء والأجهزة الأخرى، وليس أدل على ذلك من أن أهم وأخطر اتفاق بين روسيا والسعودية، وهو اتفاق "خفض انتاج النفط" الذي غير وجه سوق النفط العالمية، جرى مناقشته وإعداده وتوقيعه بين وزراء البلدين مع مندوبي الدول في منظمة أوبك عام 2017،

زيارة خادم الحرمين الملك سلمان لروسيا والحفاوة الكبيرة في استقباله هناك حققت أهدافها سياسياً واستراتيجيا، إذ أكدت على حاجة الدولتين الكبيرتين للتقارب فيما بينهما من أجل خلق توازن إقليمي ودولي يساعد على تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وربما من أجل هذا الهدف وفي إطاره تأتي الزيارة المتوقعة قريباً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمملكة العربية السعودية، وهي الزيارة الثانية للرئيس بوتين للمملكة بعد زيارته الأولى لها عام 2007، والتي اتخذت نفس النهج السياسي الذي ذكرناه، ولم  تثمر عن أية نتائج  اقتصادية أو صفقات سلاح أو استثمارات، رغم الاستقبال الفائق في الحفاوة والترحيب والمودة التي قوبل بها بوتين والوفد المرافق له لتعكس مدي اهتمام كلا البلدين بالتقارب وتطوير العلاقات بينهما، حيث قلد العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز الرئيس بوتين وشاح الملك عبد العزيز أعلى الأوسمة في المملكة، وقال الملك عبد الله لبوتين " إن هذا الوسام يمنح فقط لأصدقاء المملكة الحقيقيين " وأشاد العاهل السعودي بالرئيس بوتين قائلا "إنه أثبت بالفعل أنه رجل يحب العدل والحق"، وعبر الرئيس بوتين عن سعادته البالغة بالنمو الجذري والسريع للعلاقات بين البلدين لدرجة أنهما في غضون أعوام أربعة فقط أصبحا يتكلمان لغة مشتركة وواحدة في مختلف القضايا .

يمكن القول بأن العلاقات السعودية – الروسية في تاريخها لم تشهد أية توترات تذكر، رغم خلافات الرأي والمواقف تجاه بعض القضايا الإقليمية العربية، مثل الأزمة السورية واليمنية والقطرية،  لكنها لم تؤثر على الإطلاق في العلاقات بين موسكو والرياض، ومع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في السعودية زادت الاتصالات بين موسكو والرياض، وزاد تبادل زيارات الوفود الرسمية، وكانت زيارة الأمير محمد بن سلمان في مايو 2017، عندما كان وليا لولي العهد السعودي، واستقبال الرئيس الروسي بوتين له، هي بداية الانطلاق الجديد للعلاقات بين البلدين، حيث وضعت فيها الخطوط الرئيسية للتعاون المشترك بينهما، كما خططت هذه الزيارة للزيارة التاريخية التي قام بها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لروسيا.

جاءت الاستعدادات كبيرة لزيارة الرئيس بوتين للسعودية، وقد شحذ أصحاب الرأي والإعلاميون والمراقبون أقلامهم استعداداً لتناول الزيارة، وكما هو توقع  دائماً تأتي معظم  الأخبار والتوقعات والكتابات حول الصفقات والمشاريع المشتركة والاستثمارات، وربما يتم في الزيارة كالعادة الإعلان عن اتفاقات كثيرة بين البلدين، وإن كان المتوقع أكثر أن الحديث عن منظومة الدفاع الصاروخية (إس – 400) سيشغل الحيز والاهتمام الأكبر إعلامياً، خاصة أن الحديث عنها اشتعل بسبب تصريحات الرئيس بوتين في مؤتمر صحفي بعد الهجمات على مصافي شركة أرامكو السعودية في منتصف سبتمبر 2019، حيث اقترح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على المملكة العربية السعودية، شراء منظومة "إس 400" أو "إس 300" لحماية البنية التحتية.

لكن هذا العرض من الرئيس بوتين في المؤتمر الصحفي في انقرة لم يأخذه الكثيرون على محمل الجد، خاصة وأن بوتين كان مبتسما وهو يقوله، الأمر الذي فسره البعض بأن بوتين يرى أن صفقة من هذا القبيل يصعب تحقيقها في ظل وجود منظومة باتريوت الأميركية في السعودية، وقال البعض أن بوتين أراد فقط أن يروج للمنظومة الروسية ويكشف فشل المنظومة الأميركية في حماية منشآت النفط السعودية.

أياً كان الأمر فإن روسيا لا تسعى بجدية لصفقات سلاح أو استثمارات ضخمة في المملكة، وربما يكفيها نجاح اتفاق تخفيض النفط مع أوبك الذي تغاضت عنه واشنطن على مضض، ويبدو أن روسيا لا تريد الدخول مع الولايات المتحدة في صراعات حول سوق السلاح الخليجي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص، خاصة وأن لدى روسيا عملاء يشترون منها السلاح بكميات كبيرة مثل الصين والهند، ودول عربية مثل مصر وسوريا والجزائر، وكذلك دول إقليمية مثل إيران وتركيا، وغيرهم، وما تشتريه دول الخليج العربية من  أسلحة من  روسيا لا يشكل أي نسبة في مشتريات دولة مثل الهند أو الصين، كما أن انتاج روسيا من السلاح الحديث لا يغطي أكثر من الأسواق التي عندها حالياً، لدرجة أن  الجيش الروسي نفسه ينتظر سنوات ليحصل على الأسلحة الروسية الحديثة.

روسيا لا تولي اهتماً كبيراً للعلاقات الاقتصادية والتجارية مع المملكة العربية السعودية بالتحديد، وليست بحاجة ملحة للتنسيق مع السعودية في أسواق النفط سوى لفترات مؤقتة عندما تنخفض الأسعار، وربما تحتاج روسيا للتنسيق مع السعودية في قضايا المنطقة بشكل عام، لكن هذا الأمر لا يستدعي من موسكو أن تدخل في تحدي مع قوى دولية أخرى من خلال سعيها للتقارب القوي مع السعودية.

روسيا تريد من الرياض ما هو أكبر وأبعد من تصور الكثير من المحللين والمراقبين، ومن يتابع الرئيس الروسي بوتين منذ وصوله للسلطة في الكرملين عام 2000، يلاحظ طموحاته وسعيه الدؤوب لتغيير موازين القوى، ونقل الثقل من الغرب إلى الشرق، ويبدو أن بوتين ناقش هذه المسألة كثيرا مع الأب الروحي له ورئيسه السابق في جهاز الاستخبارات السوفيتية "كي جي بي" السياسي الروسي المخضرم الراحل "يفغيني بريماكوف"، والذي يقال أنه كان له تأثير كبير على بوتين منذ توليه السلطة، وهو الذي أقنع بوتين بضرورة نقل الثقل الدولي إلى القارة الأسيوية، وبواقعية وإمكانية التحالف الثلاثي الاستراتيجي (روسيا والصين والهند).

ويدور الحديث في موسكو حول طموحات بوتين لتشكيل قطب أسيوي كبير يضم مع الترويكا (روسيا والصين والهند) دولة رابعة هي السعودية، وهذا الحديث ليس جديد، بل سبق أن تداول في الأوساط السياسية الروسية بعد زيارة الرئيس بوتين للمملكة العربية السعودية ولقائه بالملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2007.

ورغم ما يبدو من صعوبات كبيرة أمام تحقيق مثل هذا الطموح، والذي يتصوره البعض خيالي إلى حد كبير، نظراً للعلاقات الوطيدة والتاريخية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً، إلى جانب أن مثل هذه الطموحات الروسية ستصطدم باعتراضات قوية من جهات عدة، خاصة وأن البلدين هما أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم، وتحالفهما سياسياً واقتصادياً سيكون له ردود فعل حادة، خاصة في الغرب، ولكن رغم كل هذا، فإن بوتين يؤمن بأن السياسة لا تعرف المستحيل، لكنها تعرف المتغيرات والتطورات، ولهذا توافرت لديه الجرأة قبل زيارة الملك سلمان بيوم واحد، في المنتدى الدولي حول فعالية الطاقة في موسكو الأربعاء 4 أكتوبر 2018، عندما رد في حلقة النقاش على من قال: "أن الولايات المتحدة ستبقى دائما الحليف الأساسي للسعودية في الشؤون الجيوسياسية"، حيث رد عليه الرئيس بوتين بثقة قائلاً: "يبدو لي أن العكس صحيح، وكل شيء يتغير، ولا يوجد في العالم شيء دائم بشكل مطلق"، وأكمل بوتين حديثه بطرح تميز روسيا عن الولايات المتحدة في علاقاتها الخارجية بقوله: "إن ميزة روسيا في العلاقات مع دول الشرق الأوسط تتمثل في عدم وجود أي "لعبة مزدوجة" من قبل موسكو، وإن سياسة البلاد شفافة"، مشيرا إلى أن روسيا صريحة في علاقاتها مع شركائها، وتستعرض موقفها بشكل واضح، وتتحدث عن الخلافات بشكل مباشر.

البعض يرى أن الرياض لها طموحات أخرى تماماً، وربما عكس ما تطمح له موسكو، فهي تسعى، بقدر الإمكان، إلى تحجيم العلاقات بين روسيا وإيران، وربما تستخدم في ذلك أسلوب التقارب الاقتصادي والتجاري والعسكري، لكن هذا الرأي ليس صحيحاً بشكل مطلق، لأن الرياض تستوعب جيداً أن أية محاولات للتأثير على العلاقات بين موسكو وطهران لن تحقق أي نجاح، نظراً للمستوى التي وصلت إليه هذه العلاقات على مدى سنوات طويلة، والتي فشلت واشنطن أكثر من مرة في اختراقها رغم الإغراءات العديدة، كما أنه لا مجال للحديث عن اغراءات وصفقات لروسيا مقابل تحجيم علاقاتها مع إيران التي تربطها بها علاقات اقتصادية وعسكرية وتجارية أكبر بكثير من علاقات روسيا بالدول العربية مجتمعة، سواء في مجال التعاون النووي، أو في مجال الطاقة في بحر قزوين وغيره، أو في مجال التسليح العسكري والتجارة.

ربما لا تختلف السعودية في توجهاتها في العلاقات مع روسيا عما تريده موسكو تجاهها، فالمملكة دولة عربية كبرى تقود العالم الإسلامي، ولها طموحاتها الإقليمية والدولية، ومثلها مثل روسيا التي تتفق معها في المبادئ والأهداف من أجل تحقيق هذه التوجهات، فكلتا الدولتان تسعيان لخلق عالم يعمه الأمن والسلام والاستقرار، وتختفي منه الحروب، ويكون بالطبع عالم متعدد الأقطاب، وقائم على أسس ومبادئ القانون الدولي، وأهمها احترام سيادة جميع الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية، ونبذ طموحات الهيمنة والنفوذ، وفي هذا الإطار يمكن أن  يحقق التقارب بين البلدين في التوجهات الجيوسياسية العالمية ما هو أكبر وأهم بكثير من الصفقات العسكرية والتجارية والاستثمارات وغيرها.

متخصص في الشئون الروسية

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق