واشنطن VS موسكو.. كيف يتحول العالم نحو الصراع بين أحادية أمريكا وروسيا؟

الخميس، 05 ديسمبر 2019 09:00 م
واشنطن VS موسكو.. كيف يتحول العالم نحو الصراع بين أحادية أمريكا وروسيا؟
رئيس روسيا والرئيس الأمريكي

لم تختلف تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خلال قمة الناتو، والتى عقدت بمنتجع «سيلتيك مانور»، عن مجمل التصريحات التى سبق وأن أدلى بها، منذ توليه منصبه، حيث دارت فى معظمها عن أولوية إعادة هيكلة العلاقة مع الحلفاء، والتى يرى أنها كانت تقوم فى الأساس على استنزاف الإمكانات الأمريكية، سواء الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية، لصالحهم، وهو الأمر الذى ترك شرخا فى علاقة واشنطن بحلفائها، ليس فقط فى أوروبا الغربية، أو أعضاء الناتو، وإنما امتدت إلى الحلفاء فى مناطق أخرى بالعالم، سواء فى آسيا أو حتى دول أمريكا اللاتينية، والتى طالتها قرارات البيت الأبيض، بفرض تعريفات جمركية مؤخرا على واردات الصلب القادمة من بعض دولها، كالبرازيل والأرجنتين، وهى المنطقة التى تمثل أحد محاور الصراع الدولى فى المرحلة المقبلة.
 
رؤية ترامب تجد شعار حملته الانتخابية «أمريكا أولا» مرجعا لها، حيث تقوم على أساس شعبوى بحت يرتبط بالأساس على انعكاسات العلاقات الدولية على الداخل الأمريكى بشكل مباشر، بينما تبقى الحسابات الأخرى المتعلق بموقع واشنطن على قمة النظام الدولى، مرتبطا بسياسات مختلفة، تتمثل فى إضعاف المنافسين، وهو ما يبدو واضحا فى موقفه المعادى للاتحاد الأوروبى، والذى طالما لعب دورا داعما للقيادة الأمريكية للعالم، وسعيه نحو تفكيكه باعتباره قوى منافسه يمكنها مزاحمة واشنطن، بينما اتجه إلى استنزاف الخصوم، على رأسهم الصين وروسيا، عبر إجراءات تجارية تارة، وتكتيكات عسكرية تارة أخرى، خاصة بعد توجهه الصريح نحو حصارهم عسكريا سواء بالتوجه نحو أوروبا الشرقية لاستهداف موسكو، أو فيتنام لاستهداف الصين.
 
إلا أن العقيدة الأمريكية الجديدة، التى أرساها ترامب، منذ صعوده إلى البيت الأبيض، والتى تقوم فى الأساس على أحادية القرار الدولى لواشنطن، بعيدا عن الحلفاء، تواجهها تحركات أخرى من خصومه، وعلى رأسهم روسيا، تهدف إلى تشكيل تحالفات جديدة، عبر خلق أكبر قدر من المصالح المشتركة مع مختلف الأطراف الدولية، بعيدا عن الأيديولوجيات أو حتى الصراعات القديمة، وهو ما يفتح الباب أمام وجود تكتل قوى ربما يثير شكوكا كبيرة حول إمكانية صمود أمريكا على قمة النظام الدولى لسنوات قادمة، ليصبح العالم أمام شبح عودة ما يمكننا تسميته «زمن الأيديولوجيات»، بعد اندثار حقبة الصراع الشيوعى الرأسمالى، الذى قامت على أساسه الحرب الباردة.
 
إلا أن الصراع الجديد بين القوى الدولية يقوم بين عقيدة «الأحادية» الأمريكية، والتى نجح ترامب فى إرسائها إلى حد كبير منذ بداية توليه عرش البيت الأبيض، مقابل ما يمكننا تسميته بسياسة «بناء الجسور»، والتى تسعى روسيا لتحقيقها، باستخدام ذراع الطاقة، عبر «دبلوماسية الأنابيب»، والتى خلقت لموسكو مكانا قويا ليس فقط فى مناطق نفوذها التقليدية، ولكن أيضا فى اختراق مناطق النفوذ الأمريكى، وهو ما يبدو واضحا فى الانتشار الواسع لمشروعات الطاقة الروسية بين الصين ودول أوروبا الغربية، وأخرها تدشين خط أنابيب «قوة سيبيريا» فى الصين، بحضور الرئيس شى جين بينج، بينما كان الرئيس الروسى فلاديمير بوتين عبر «الفيديو كونفرنس».
 
«دبلوماسية الأنابيب» الروسية لم تقتصر على الصين، وإنما امتدت إلى أوروبا الغربية، والتى تمثل أحد مناطق النفوذ الرئيسية للولايات المتحدة، وهو ما بدا واضحا فى التعاون الروسى الألمانى، وكذلك المساعى الفرنسية، التى سبق وأن أعلن عنها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فى الانفتاح على موسكو، داعيا إلى الاستقلال الأوروبى عن واشنطن فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا، فى تحد صارخ للهيمنة الأمريكية، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لنجاح رؤية الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى ملء الفراغ الناجم عن الأحادية الأمريكية عبر الانفتاح على خصومه التاريخيين، من خلال تعميق المصالح المشتركة، لتطغى على الخلافات بين الجانبين، وهو ما يترك أثرا إيجابيا ليس فقط على الاقتصاد، ولكن أيضا على مستقبل النفوذ الدولى لموسكو فى المرحلة المقبلة.
 
ويكمن النجاح الروسى المنقطع النظير فى بناء تحالفاته الجديدة تقوم، ليس فقط على اعتماده على الغاز الروسى، وحاجة الدول الأخرى له، أو حتى استغلال ما يمكننا تسميته بـ«الغدر الأمريكى» بالحلفاء، ولكن أيضا فى قدرة موسكو على تجاوز الخلافات ولو مرحليا، وهو ما بدا واضحا، على سبيل المثال، بترحيب بوتين بدعوة فرنسا إلى تأسيس ما يسمى بـ«الجيش الأوروبى الموحد»، على رغم ما حملته من عداء صريح لموسكو، حيث برر الرئيس الفرنسى مبادرته بالحاجة الأوروبية لمواجهة خصوم القارة، وعلى رأسهم روسيا والصين إلى جانب الولايات المتحدة.
 
سياسة موسكو القائمة على تجاوز الصراعات لم تقتصر على أوروبا، ولكنها تمتد إلى مناطق أخرى، من بينها المحيط الآسيوى، حيث تجاوزت روسيا صراعاتها التاريخية مع الصين منذ بداية الألفية الجديدة، تزامنا مع وصول بوتين إلى عرش الكرملين، كما استغل سياسات واشنطن الجديدة لتحقيق تقارب غير مسبوق مع حلفاء أمريكا التاريخيين فى القارة الصفراء، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية واليابان، رغم الخلافات، وأبرزها الصراع التاريخى بين موسكو وطوكيو حول جزر الكوريل، والتى تدعى كل دولة أحقيتها بها، وهو الصراع الذى يبدو فى طريقه إلى الحل فى المستقبل القريب، خاصة مع انطلاق المفاوضات وتبادل الزيارات بين بوتين ورئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى، فى الأشهر الماضية.
 
ولعل النجاح الروسى فى اختراق مناطق النفوذ الأمريكى، خاصة فى أوروبا، أثار امتعاض الإدارة الأمريكية، وهو ما بدا فى اتهامات ترامب لألمانيا بالتبعية لروسيا تارة، ومحاولته لتوريطهم فى استفزاز موسكو تارة أخرى، وهو ما يبدو فى فرضه لأجندته على قمة الناتو فى بريطانيا، والتى قامت على تحويل وجهة الناتو العسكرية إلى أوروبا الشرقية، ليصبح توجها جماعيا، بعدما كان أمريكيا خالصا فى بداية الأمر، وهو ما بدا فى الإعلان منذ عدة أشهر عن بناء قواعد عسكرية أمريكية فى بولندا، تتكفل بتكاليفها حكومة وارسو، فى محاولة لتوريط الحلفاء الغربيين فى استفزاز موسكو.
 
وهنا يمكننا القول بأن الصراع الجديد الذى بدت تتشكل ملامحه، يبدو صورة معاكسة لحقبة الحرب الباردة، حيث كانت التحالف الغربى الداعم لواشنطن هو سر قوتها، فى الوقت الذى لم يكن يحظى فيه الاتحاد السوفيتى بحلفاء أقوياء، خاصة مع سيطرته على الكتلة الشرقية تحت إطار فيدرالى، مما سهل عمليه تفجيره من الداخل، عبر إثارة النزعات الانفصالية داخل الدول الخاضعة تحت سيطرته، إلا أن الخلاف الرئيسى بين التحالفات الروسية فى المرحلة الراهنة، والنهج الأمريكى القديم يقوم على طبيعة العلاقة، حيث أن سياسة «بناء الجسور» الروسية تتفادى خطيئة واشنطن، عبر إقامة علاقتها مع الأطراف الأخرى بناء على مبدأ «المصلحة المشتركة»، فى حين أن الإدارات الأمريكية أقامت علاقتها على مبدأ احتضان الحلفاء، وتقديم المزايا لهم مقابل التبعية لها والدوران فى فلكها فى مختلف القضايا الدولية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق