روسيا والحنين للحقبة السوفيتية

السبت، 21 ديسمبر 2019 04:46 م
روسيا والحنين للحقبة السوفيتية
د. مغازي البدراوي يكتب :

في الوقت الذي تسعى فيه دول المعسكر الاشتراكي السابق، ربما جميعها، إلى الهروب من الحقبة الاشتراكية الشيوعية والتطلع للدخول فيما يسمونه "العالم الحر" الذي يرفع شعارات الحرية والديمقراطية والانفتاح الاقتصادي، نجد الحنين للحقبة السوفيتية الاشتراكية ينمو في روسيا، ليس فقط بين كبار السن الذين عاشوا هذه الحقبة في ظل الدولة السوفيتية العظمى، بل أيضاً في أوساط الشباب الروس الذين لم يعيشون هذه الحقبة، والذين، من المفترض ان يكون تطلعهم لما يسمى "العالم الحر" أكبر، حيث الحرية والانفتاح على دول العالم الحر التي كان يعيش الشعب الروسي في العهد السوفييتي في عزلة عنها  بسبب السياسات المغلقة للاتحاد السوفييتي التي كانت تخشى تأثير أفكار الغرب على الشعب السوفييتي، لكن ما يحدث هو العكس، فرغم مظاهر الحرية والديمقراطية والانفتاح الذي يعيشه الشعب الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إلا أن قطاعات كبيرة من الروس تحن لهذه الحقبة، وهو ما يفسره المحللون وعلماء علم الاجتماع بميول الشخصية الروسية لمظاهر القوة والتفوق العالمي، وعشق هذا الشعب على مدى تاريخه للقيادة الوطنية القوية التي تضع روسيا في مقدمة الدول الأقوى عالمياً، وهو الأمر الذي يفسر به الكثيرون ارتفاع شعبية الرئيس الروسي بوتين على مدى قرابة عشرين عاماً من حكمه للبلاد، كما يعكسه أيضاً استدعاء العديد من الروس لشخصية الزعيم الشيوعي ستالين الذي قاد الدولة السوفيتية العظمى ثلاثين عاماً حتى عام 1952، والذي يضعه الغرب ضمن أشد نماذج الديكتاتورية والقمع مع هتلر وموسوليني ويتهمه بإبادة ونفي الملايين من الشعب الروسي، بينما ينظر إليه العديد من الروس، باعتباره الزعيم القوي مؤسس الدولة السوفيتية العظمى وقاهر النازية في الحرب العالمية، هذه النزعة الستالينية لدى الروس لا تقلق فقط الغرب وخصوم روسيا السياسيين، بل لا تجد قبول لدى جهات داخل روسيا، ومنها الكنيسة الروسية  التي عانت الكثير في عهد ستالين الذي أغلق الألاف من الكنائس في الاتحاد السوفييتي وحول مبانيها إلى نوادي رياضية ومسارح للفنون.

وقد أثار الاستدعاء الشعبي لشخصية ستالين منذ أيام قليلة غضب الكنيسة الروسية، وذلك عندما رفعت الجماهير صور ستالين في احتفالات أعياد النصر في التاسع من مايو الماضي، ولافتات تصفه بقائد النصر في الحرب العالمية الثانية التي يسمونها في روسيا "الحرب الوطنية العظمى".

 وطالبت الكنيسة الروسية بعدم نسب النصر في الحرب الوطنية العظمى إلى ستالين.  وقالت في بيان لها: "لا يجوز إطلاقاً، القول إن الفضل في انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب الوطنية العظمى، يعود إلى ستالين". وأضافت أن النصر في تلك الحرب الدامية، هو نتيجة العمل الفذ الشجاع من جانب كل الشعب السوفيتي، ولكنه نسب زورا وبهتانا إلى ستالين، بسبب انتشار ظاهرة "عبادة الفرد" في تلك الفترة."ونددت الكنيسة بسياسات ستالين القمعية مشيراً إلى أن هذا هو الموقف الثابت للكنيسة الروسية من الحقبة الستالينية بشكل عام.

وفي وقت سابق، أظهر استطلاع للرأي العام في روسيا، ارتفاع مستوى الإعجاب بسياسة ستالين إلى مستوى قياسي. حيث أعرب 51 ٪ من المواطنين فيها عن موقف إيجابي تجاه الزعيم السوفيتي الراحل.

وكانت وكالة "ليفادا-تسينتر" الروسية المستقلة لاستطلاعات الرأي قد أجرت استطلاعاً في مطلع العام الجاري 2019 أكد أن نسبة تأييد الروس لنشاط ستالين ازدادت وبلغت قيمة قياسية.

ويرى 70% من المواطنين الروس أن ستالين لعب دورا إيجابيا على الأرجح أو دورا إيجابيا بالكامل في حياة البلاد.  فيما أشار 19% من المشاركين في استطلاع الرأي إلى دوره السلبي.

وتكشف استطلاعات الرأي أن عدد الروس الذين يأسفون على انهيار الاتحاد السوفييتي بلغ الحد الأقصى في السنوات العشر الأخيرة. ويتجلى ذلك من خلال استبيان "مركز ليفادا"، الذي نشرت نتائجه صحيفة "فيدوموستي" في منتصف ديسمبر 2018.

فوفقا للدراسة، 66 ٪ من المواطنين الروس يشعرون بالحنين إلى الاتحاد السوفييتي، وقبل عام، أعرب 58 ٪ من المستطلعين عن هذا الموقف.

وقد عبر الرئيس الروسي بوتين أكثر من مرة عن حنينه الشخصي للحقبة السوفيتية وللدولة العظمى، وبعد توليه الرئاسة للولاية الرابعة في السابع من مايو 2018، هاجم بوتين الشيوعيين الروس واتهمهم بأنهم هم السبب في انهيار الاتحاد السوفييتي، ومن المعروف أنه رغم ولاء بوتين للعهد السوفييتي إلا أنه غير راضي عن الشيوعيين الروس ودورهم في عهد بريجنيف وجورباتشوف، ويرى أنهم نافقوا السلطة أكثر من اللازم.

والغريب في نتائج استطلاعات الرأي في روسيا، أن الحنين للحقبة السوفيتية، ليس فقط للقوة العظمى بل أيضاً للأيديولوجية الشيوعية نفسها، فقد أظهر استطلاع للرأي في الذكرى الـ200 لميلاد كارل ماركس، أن ثلث الروس تقريبا يتعاطفون مع الماركسية

وتعرف أغلبية ساحقة من الروس اسم كارل ماركس (98%)، لكن الجيل الأكبر سنا (70%) أكثر دراية به لأنهم طالعوا مؤلفاته، وفي المقام الأول بفضل كتابه "رأس المال"- وقد قرأ هذا العمل أكثر من نصف الروس (58%) الذين تم استطلاع آرائهم، ومن حيث المبدأ فإن الكثير من الجيل السوفيتي في روسيا على دراية بأعماله" ، كما ورد ذلك في نتائج الاستطلاع.

ويرى محللون أنه على الرغم من أن الماركسية اللينينية اختفت تماما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي من برامج الجامعات، وحتى من كتب التاريخ في البرامج المدرسية، فإن اسم ماركس لا يزال مألوفا لدى الروس، وماركس لم يغب تماما من العقل الجمعي الروسي، كما أن الماركسية لم تغب من الذاكرة الروسية، لأنه يجري استرجاعها عند كل أزمة اقتصادية، سواء في روسيا أو في الغرب، أو عند تأزم العلاقات مع الغرب، وكذلك عند كل شعور بعدم الرضا عن الفارق الكبير بين الأغنياء والفقراء يعاد إحياء ذكريات الأفكار الماركسية".

بالمقابل فإن الذين يهاجمون الحقبة السوفيتية وينتقدونها والذين ينبشون الصفحات السوداء لهذه الحقبة، سرعان ما يتهمون بأنهم يقومون بأعمال "غير وطنية". خاصة المنظمات التي تعكف على دراسة عمليات القمع التي جرت خلال الحكم السوفياتي من 1917 الى 1991، ويرى المحللون ان سبب اتهام من ينتقدون الحقبة السوفيتية بعدم الولاء الوطني هو أن أعداء الاتحاد السوفييتي، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، مازالوا هم أعداء روسيا الحالية، وما زالوا يترصدون لها، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يحظى بشعبية كبيرة في روسيا والعالم، ويفتخر الروس بقوته ووطنيته، لم يخفي حنينه وفخره بالحقبة السوفيتية، وصرح أكثر من مرة بأن انهيار الاتحاد السوفييتي كان أكبر نكسة للعالم في القرن العشرين.

ومع أن الاتحاد السوفيتي لم يعد قائما والشيوعية لم تعد عقيدة رسمية، فإن الاف الشوارع والانصاب تحمل أسماء أبطال من الشيوعيين السوفييت، وعلى رأسهم لينين. ولا يزال جثمان لينين، باني الاتحاد السوفياتي، محنطا وممددا في ضريحه في الساحة الحمراء أمام أسوار الكرملين على بعد أمتار من قبر ستالين.

تبقى الكلمة التي أطلقها فلاديمير بوتين عام 2005 والتي لا ينساها له العالم كله ويقيسون عليها طموحاته وأحلامه ومستقبل روسيا، وذلك حين قال: "ان سقوط الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن". وبعد فترة أضاف "أن الذي لا يأسف لسقوط الاتحاد السوفياتي لا قلب له. اما من يريد اعادة بنائه فلا دماغ له".

 

 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق