هشام السروجي يكتب: إدارة الملفات الخارجية بين الرصانة المصرية والغطرسة الأردوغانية.. برلين نموذجاً

السبت، 25 يناير 2020 01:51 م
هشام السروجي يكتب: إدارة الملفات الخارجية بين الرصانة المصرية والغطرسة الأردوغانية.. برلين نموذجاً

يدار الملف الخارجى فى مصر برؤية واضحة المعالم تتسق وثوابت الأمن القومى المصرى والإقليمى، والمسئولية الإقليمية التى تنبع من الثقل المؤثر للدولة، ولا يخضع إلى أهواء أفراد وأشخاص حتى لو كان رأس السلطة السياسية - رئيس الجمهورية - حيث إن عقيدة المؤسسات الفاعلة فى تطبيق السياسية الخارجية، لا تعمل سوى للصالح العام التى يحقق المصلحة العليا، دون أى اعتبارات أو مواءمات، سوى ما فيه الحفاظ على مقدرات الشعب وعلاقات الدولة بمحيطها الإقليمى.
 
 
المتابع الجيد للحلول المصرية للقضايا الإقليمية منذ حالة الانفلات التى شهدتها بعض دول المنطقة فى 2011 وحتى اليوم، يجد أنها أثبتت معقوليتها، لأنها تأسست على معطيات مجردة من الانحياز أو الرؤية الشخصية للحاكم، ففى سوريا واليمن والعراق وليبيا، والتدخل الأجنبى فى المنطقة العربية، والمخاطر التى تحيط بدول الخليج العربى، والقضايا الإشكالية فى العمق الأفريقى، ومحاربة الإرهاب فكريا وعسكريا، كانت الحلول المطروحة من الإدارة المصرية، مستندة على تقديرات موقف ومعطيات، لم يراع فيها سوى الصالح العام لها وللمناطق التى تشهد زعزعة وتوترا، ولا تسعى لتحقيق مكاسب خاصة على جثث الأبرياء.
منذ اللحظة الأولى لتدهور الأوضاع السورية عقب اندلاع التظاهرات منذ 9 سنوات، ودخولها نفق المواجهات المسلحة بين الجيش السورى والجماعات المتطرفة، كان موقف المؤسسات المصرية واضحا وثابتا لم يتغير مع تغير أنظمة الحكم التى توالت بعد تنحى الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وصولا للرئيس عبدالفتاح السيسى، حتى فى فترة تولى عضو من جماعة الإخوان رئاسة الحكم فى البلاد، كان الموقف المصرى ولا يزال رافضا للتدخل العسكرى، ومؤكدا أنه لا حل سوى الحل السياسى.
 
وكانت السياسة الخارجية فى تلك النقطة بالتحديد كاشفة أنها تتفق ونبض الشارع المصرى، الذى رفض بكل طوائفه وشرائحه دعوات محمد مرسى بالجهاد فى سوريا وقطع العلاقات معها.
 
رصانة الموقف المصرى فى محيطه الإقليمى كان يقابلها تهور وغطرسة تركية، تصادما دائما فى الرؤية والحلول، ومع مرور الوقت بدأت تتكشف الحقائق، وتفرض الأوضاع واقعا متغيرا، أثبت بالدليل القاطع أن الرؤية المصرية لما يدور فى الدول المحيطة، هى الرؤية الوحيدة القادرة على التعامل مع تلك الأزمات.
انتهج النظام التركى سياسة خارجية أفقدته جميع الحلفاء والأصدقاء، ونجح بامتياز فى خلق عداوات مع دول الجوار والقوى الإقليمية، وبدأ فى الانكماش والانحصار وخسارة المعارك التى يخوضها خارج حدوده، وحاول حصار النظام المصرى على جميع الجبهات، واتبع أسلوب التطاول والخروج عن التعامل الدبلوماسى مع دولة بحجم مصر، وفقد جميع أرصدته لدى الشعب الذى تربطه علاقات ضاربة فى جذور التاريخ، من أجل أهداف الرئيس التركى رجب طيب أردوغان الآتى من رحم جماعة الإخوان، وكحال الرئيس الراحل محمد مرسى، أدار الرئيس التركى دولته بفكر الجماعات الضيق.
 
جاءت قمة برلين المعنية بالأزمة الليبية، لتبلور التباين فى أسلوبى الإدارة المصرى والتركى، ونتائج حصاد كل إدارة منهما لثمار منهجها وفكرها، فكانت الرؤية المصرية التى تحمل الحكمة وتمسك بمقاليد الأمور من منطلق الدولة الكبرى ووتد الخيمة العربية، والجارة التى تجيد قراءة الواقع الليبى، مقابل الرؤية التركية المؤدلجة والساعية إلى تحقيق أهداف الرئيس دون قراءة واعية لتبعات هذه السياسة المتهورة.
 
السياسة الخارجية لكل دولة، تمثل عقيدتها وتنطوى على أهدافها الحقيقية، ورؤيتها المستقبلية ومصير شعوبها، ومنذ أن ولى الرئيس أردوغان وجهه قِبّلَ ليبيا، كانت أهدافه واضحة، حصار مصر فى المقام الأول، ومناوشتها فى منطقة التماس، ضمن لعبة شد الأطراف الجغرافية، والحصار السياسى، ثم تمكين أذرع جماعة الإخوان من الدولة الليبية، التى تقترب من الدخول إلى معصرة الحرب الأهلية، إذا طال أمد الخلاف داخلها وحالة الاستقطاب، فى محاولة أخيرة من خلق تواجد ومشروعية سياسية للجماعة المنهارة، التى فقدت كل أدواتها وطموحاتها فى أن تكون لاعبا سياسيا إقليميا يسيطر على نظام حكم يوفر له مظلة مشروعية.
 
كذلك كانت سياسة أردوغان الخارجية فى دول المنطقة من قبل ليبيا واضحة الأهداف، فى سوريا ومياه المتوسط ودول الاتحاد الأوروبى، وكلها تصب فى خانة رغبة التمدد خارج الحدود، والتوسع فى بسط النفوذ بما يُعرف بمشروع إعادة أمجاد الدولة العثمانية، وهى أضغاث أحلام تداعب مخيلته، فالواقع العالمى وموازين القوى وتطور المفاهيم العسكرية والأمن القومى، وتطور الاحتلال من عسكرى إلى اقتصادى وفكرى وثقافى، جعلت من مفاهيم الاحتلال والتوسع التقليدية ضربا من الخيال.
 
أخطأ أردوغان عندما تهور ووضع سياسة خارجية تقوم على الندية مع الدول الكبرى، وحين سيطرت عليه أعراض العظمة، فى وقت لا يملك فيه مقومات خوض المعارك على عدة جبهات، سوريا والمتوسط والدول العربية والعمق الأفريقى، سياسة خسر فيها دول الاتحاد الأوروبى وهم أعضاء حلف الناتو الذى يكسب تركيا ثقلا عسكريا، حين هدد وضغط عليهم بكروت اللاجئين وتصدير المتطرفين إلى أوروبا، مؤكدا أنه بواب الجحيم القادر على فتحه على سكان القارة العجوز، خسر فى دول الخليج العربى حين دعم قطر نكاية فى مصر، وتحالف مع إيران لتحقيق مكاسب فى سوريا على حساب الأمن القومى العربى، وهدد أمن الناتو عندما هدد دولا أعضاء عسكريا للسطو على غاز المتوسط.
 
كان من الواضح أن الرئيس التركى يبحث عن عدو يصب عليه اللعنات ويدير معه معركة يخلق منها فوزا يتمطع به أمام جماعته وشعبه، كيف يثبت قوته دون معركة يستعرض فيها عضلاته، فاختار الدولة المصرية التى تبحث عن التعافى من تبعات سنوات الفوضى الداخلية والانهيار الاقتصادى، تحت زعم حماية الشرعية، خاض المعارك شرقا وغربا ولم يترك محفلا دوليا ولا مناسبة داخلية إلا وكال الاتهامات وتطاول على المصريين حكومة وشعبا حين وصف ثورتهم بالانقلاب.
 
 على الجانب الآخر كانت مؤسسات الدولة المصرية تخطو نحو مشروعها، منتهجة سياسة خارجية رصينة، تقوم على حُسن الجوار ومفهوم الأمن القومى الواحد والمصير الواحد، سياسة تقوم على الاحترام وعدم التدخل فى شئون الدول الأخرى، ورفض التدخل فى شئونها، لم تهدد مصر أمن أى دولة، حتى الدول التى تعمدت على مدار سنوات تصدير الإرهاب إلى أراضيها وتهديد أمن المجتمع المصرى بالدعم المالى واللوجستى، سوى أنها دعت المجتمع الدولى إلى اتخاذ موقف واضح من هذه الدول التى أصبحت تهدد الأمن والسلم العالميين، تعاملت الدولة المصرية مع جميع الملفات الخارجية بمبدأ حُسن النية والصبر والتروى، حتى فى أشد الملفات خطورة وحساسية، المتعلق بسد النهضة الإثيوبى، كانت تقديرات الموقف تخرج متوقعة ردا عنيفا وحاسما من الجانب المصرى، إلا أن كل المواقف كانت فى إطار من التعقل والحكمة والجنوح إلى الحوار.
 
على مدار 5 سنوات كسبت مصر أصدقاء وزادت شراكتها الاستراتيجية والاقتصادية، واحتلت مكانة ترتقى يوما بعد يوم، وحققت تقدما متسارعا على صعيد الملف الخارجى، بعد أن تأكد للجميع صحة رؤيتها ورجاحة حلولها المطروحة منذ اللحظة الأولى، فى الوقت الذى تتراجع فيه تركيا وتنحصر حتى أوشكت على الاقتراب من العُزلة، وجاءت قمة برلين لنجد مصر لاعبا رئيسيا على الطاولة فى حين انزوى أردوغان منبوذا، وعاد منها بالموافقة على البند الخامس الذى يلزم جميع الدول بعدم إرسال جنود أو مسلحين إلى ليبيا ورفض التدخل العسكرى فيها.
 
عاد الأردوغانى من القمة الألمانية حاملا ثمار الغطرسة التى تملكته حتى أهلكته، يغامر الرئيس التركى بمستقبل شعبه بمغامرات غير محسوبة العواقب، وتهور فى علاقاته الخارجية التى تنعكس بالتأكيد على الأوضاع الداخلية، الوضع الاقتصادى فى تراجع والعملة فى تأخر، حالة رفض داخلى من تحويل تركيا إلى بوابة خلفية للمتطرفين، الذين بدأوا يهددون الأمن فقرر تصديرهم إلى شمال أفريقيا والدول الأوروبية، بعد هروب عدد منهم الذين أرسلوا إلى تركيا ووصولهم إلى إيطاليا، كل ذلك وغيره جعل تركيا من الدول المحتمل أن تشهد احتجاجات فى 2020 بحسب شركة maplecroft المتخصصة فى الدراسات الاستراتيجية وقياس المخاطر العالمية.
 
فى نفس الوقت وعلى الجانب الآخر، نجد أن القيادة السياسية فى مصر تسعى إلى خلق حالة سلام مع الإقليم ودول العالم أجمع، والتعامل مع كل الملفات الخارجية بصبر وحكمة وعقلانية، تعكس الرغبة الحقيقية فى أن يدخل الشرق الأوسط فى حالة من الهدوء، ليعاد بناء ما دمرته سياسات أردوغان وغيره من الدول المتهورة وغير الحكيمة، التى دعمت وموّلت وساندت ووفرت غطاءً سياسيا للجماعات والتنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، فلم تهدد مصر جيرانها ولم تخرج أى دولة فى العالم معلنه أنها تخشى مخاطر قد تأتى من جهة مصر، وهنا يكمن الفرق بين دولة المؤسسات ذات العقيدة الثابتة ودولة التنظيمات ذات الفكر التنظيمى المحدود.
 
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق