محو الأمية واستصلاح الإنسان المصري

الأحد، 26 يناير 2020 10:00 ص
محو الأمية واستصلاح الإنسان المصري
أيمن عبدالتواب يكتب:

بالتزامن مع جملة المشروعات القومية التى يعلن عنها، ويدشنها، ويفتتحها الرئيس عبدالفتاح السيسى، كم كنت أتمنى تبنى حملة قومية «جادة» للقضاء على الأمية فى مصر، واعتبارها الأكثر خطورة على أمننا القومى.. فهذه الكارثة - الأمية - توارثناها منذ قرون، وفشلت الأنظمة المتعاقبة فى إنهائها، مكتفية بالتعامل الهامشى معها، وبإطلاق شعارات يحسبها الجاهل ماءً حتى إذا اقترب من كنهها لم يجدها شيئا.
 
فى أكتوبر 2016، كانت حكومة المهندس شريف إسماعيل أعلنت البدء فى استصلاح وزراعة مليون ونصف المليون فدان، كمرحلة أولى من مشروع الأربعة ملايين فدان، الذى أطلقه الرئيس السيسى، والمؤكد أن مشروعا كهذا سيحدث تنمية شاملة بالمناطق المستصلحة خارج الوادى والدلتا، وإقامة مجتمعات زراعية صناعية متكاملة، فضلا عن توفير الآلاف من فرص العمل، لكن الحكمة الرائعة تقول: «ابنِ ابنك ولا تبنى لابنك»، أى أن «بناء الإنسان»، وتربيته، وتعليمه، وتثقيفه، والاستثمار فى عقله أفضل من بناء العقارات له، وتأمين مستقبله بالأموال والثروات العينية فقط، دون تأهيله إنسانيا وتعليميا.. فماذا يفعل السفيه بالمال؟ وهل يدرك الجاهل قيمة ما فى يده؟
 
وإذا كانت العقود الماضية شهدت «تجريفا» للأراضى الزراعية، بالبناء العشوائى عليها، فإن العقول المصرية عانت هذا التجريف أيضا، فأنتجت لنا أجيالا مشوهة، فكريا، وثقافيا، وسلوكيا وأخلاقيا.. تزامنا مع هروب «العقول المبدعة» خارج البلاد.
 
عندما أراد الصينيون القدماء، أن يعيشوا فى أمان؛ بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا أن أحدا لن يستطيع تسلقه، لعلوه وارتفاعه، ولكن خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور، تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفى كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا فى كل مرة يدفعون للحارس «رشوة» ثم يدخلون عبر الباب! لقد انشغل الصينيون بـ«بناء السور» الحجرى، ونسوا بناء الحارس «الإنسان»، فكانت الطامة الكبرى التى حلت على بلادهم!
 
فى سبتمبر 2019، أصدر الجهـاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بيانا أشار فيه إلى ارتفاع عدد الأميين إلى 18.4 مليون فرد عام 2017، بعد أن سجل 17.0 مليون فرد عام 2006.. وبلغ معدل الأمية للذكور 21.1 % مقابل 30.8 % للإناث، وبلغ معدل الأمية بالريف 32.2 %، مقابل 17.7 % بالحضر.. معنى ذلك أن لدينا أكثر من 18 مليون «أمى» لا يعرفون القراءة والكتابة، هذا فضلا عن «الأمية المقنعة» لبعض حملة المؤهلات المتوسطة (الدبلومات الفنية)، وفوق المتوسطة (المعاهد)، والعليا (الكليات)، والذين يحصلون على الشهادة وهم لا يجيدون القراءة ويخطئون فى أبسط قواعد الكتابة!
 
إن الأمية هى الوجه المرادف للتخلف، كما العلم مرادف التقدم.. وليس مقصودا بالأمية «عدم معرفة القراءة والكتابة»، بل نقصد التعريف الذى اعتمدته الأمم المتحدة عام 1971، ونصه: (يعتبر غير أمى كل شخص اكتسب المعلومات والقدرات الضرورية لممارسة جميع النشاطات التى تكون فيها معرفة حروف اللغة ضرورية لكى يلعب دوره بفاعلية فى جماعته، ويحقق فى تعلم القراءة والكتابة والحساب نتائج تمكنه من الارتقاء بنفسه وبالجماعة التى ينتمى إليها، كما تسمح له بالمشاركة الناشطة فى حياة بلده).
 
دولة اليابان - التى تعيش معنا على نفس الكوكب، لكنها تسبقنا بسنين ضوئية - خاضت حروبا مع جيرانها الصين وروسيا القيصرية، ثم الحرب العالمية الأولى، ونالت هزيمة مدمرة فى الحرب العالمية الثانية، بسقوط قنبلتين ذريتين عليها.. وانهارت فيها مقومات المدنية والحضارة، ولكنها حققت المعجزة، ونهضت من تحت الصفر.. وخلال عقدين أصبحت دولة صناعية كبرى، وثانى أكبر قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية.. وكانت كلمتا السر وراء المعجزة اليابانية هما «الإنسان والتعليم»؛ فاليابان قضت على الأمية بنسبة 100 % منذ مطلع القرن العشرين! واهتمت ببناء الإنسان وتأهيله أخلاقيا، وثقافيا وتعليميا، ما جعلها قادرة على استعادة زمام الأمور بعد كل كارثة.
 
المؤسف والمخجل حقا، أننا ونحن فى العام 2020، وفى عصر التقدم المذهل فى مجال التكنولوجيا ووسائل الاتصال، والتقنيات الحديثة، أن نتكلم عن بديهيات، عن مسلمات، عن أمور ما كان يجب علينا الحديث عنها الآن، مثل «محو الأمية».. والأشد أسفا أن دولا عربية أقل منا فى أشياء كثيرة تتقدم علينا فى مجال التعليم مثل ليبيا وسوريا.. بل إن فلسطين «المحتلة» تسبقنا بمراحل، ونسبة الأمية فيها لا تتجاوز 2 بالمئة، وفقا لتقرير منظمة اليونسكو فى 2017.
 
فى العام 2014، أعلن وزير التربية والتعليم - آنذاك - الدكتور محمود أبو النصر، أن «هذا العام سيشهد حلولا ناجزة لمحو الأمية فى البلاد، التى سجلت 30 % من عدد السكان»، لافتا إلى أن 11 % من الأطفال خارج التعليم ما بين «متسرب أو منقطع»! وفى نفس العام أيضا، وتحديدا فى سبتمبر 2014، قال اللواء أبو بكر الجندى، رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء: «إن نسبة الأمية فى مصر انخفضت إلى 26 % من عدد السكان عام 2013، مقارنة بـ29 % عام 2006، وإن التعداد السابق على 2006 كانت نسبة الأمية فيه 39 %، والتعداد الأسبق 49 %»! 
 
معنى ذلك أنه لا يوجد رقم محدد لعدد «الأميين» فى بلد وصل تعداد سكانه إلى 100 مليون نسمة، لكن على أقل تقدير لدينا 18.4 مليون أمى، وهو رقم مهول - بلا شك - وبحاجة سريعة إلى خطة قومية للقضاء عليه، أو الحد السريع منه، وهذا أضعف الإيمان.
 
والمتابع لأحوال «التعليم» سيدرك أننا نسير بقوة «نحو الأمية»، لا إلى «محوها»، ويكفينا فخرا أننا أخرجنا أجيالا من الطلاب والمدرسين، ووزراء ومحافظين، وصحفيين وإعلاميين، لا يجيدون قراءة جملة بسيطة، حتى ولو كانت بالتشكيل، ويخطئون فى كتابة أبسط الكلمات، فيكتبون «لكن، وذلك، وهذا، وأولئك، ولا سيما..» هكذا «لاكن، وذالك، وهاذا، وأولائك، ولاسيمة».. فكيف لهؤلاء أن يقودوا قاطرة التنمية؟ وكيف نخوض بهم معركة الوعى ومواجهة أهل الشر؟! 
 
ولعل هذا ما فطن إليه نبى الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فعلى الرغم من أنه كان «أميا»، إلا أنه أدرك أهمية التعليم فى نشر الدين الوليد، وفى معركة الوعى وبناء الإنسان المسلم المتسلح بالعلم.. ولعل هذا ما دفعه لأن يطلب من أسرى المشركين فى غزوة بدر، الذين لم يكونوا يمتلكون مالا لدفع الفدية، أن يعلموا أبناء المسلمين القراءة والكتابة. 
 
لقد حدد الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أسبابا أربعة رئيسية لعدم التحاق الأميين بالتعليم، هى: عدم رغبة الأسرة بنسبة 34.2 %، الظروف المادية بنسبة 27 %، عدم رغبة الفرد ونسبتها 23.2 %، ثم صعوبة الوصول للمدرسة بنسبة 8 %.. لكنى أرى أن السبب الجوهرى لارتفاع معدلات الأمية عندنا مرتبط ارتباطا وثيقا بالمستوى الاقتصادى وتفشى الفقر فى الأسرة، وغياب الاستراتيجيات التعليمية السليمة، وتوفير التعليم ذاته. 
 
لن نسهب فى مناقشة أسباب تفشى الجهل والأمية فى بلادنا - رغم أهميتها - ولن نسرد الآثار الاجتماعية والثقافية لهذه الآفة الخطيرة المدمرة، فمعظمنا - إن لم نكن كلنا - ندرك آثارها السلبية على الفرد والمجتمع، وأنها أهم أسباب عرقلة جهود التنمية فى المجالات كافة.
 
ما نود التأكيد عليه، إذا كان استصلاح الأراضى الصحراء مهما، فإن الأكثر أهمية - من وجهة نظرى المتواضعة - هو استصلاح الإنسان المصرى، وتعبيد العقول «الوعرة»، والاستثمار فيها، وإعادة زراعتها بالأفكار الإبداعية، والمناهج الابتكارية المتطورة، إذا كنا نريد حقا منافسة أشقائنا العرب، ونجد لأنفسنا مكانا بين دول العالم المتقدمة.. بدلا من هذه «المسوخ» المنتشرة فى الهيئات والمؤسسات!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق