«عدوى بريكست».. أوروبا تواجه حمى الانفصال

السبت، 01 فبراير 2020 11:18 ص
 «عدوى بريكست».. أوروبا تواجه حمى الانفصال

تخوفات ضربت عدة عواصم أوروبية من عدوى انتقال "بريكست" إليها بعد خروج  بريطانيا من الاتحاد الأوروبى ، فى ظل العديد من المعطيات، وعلى رأسها صعود التيارات اليمينية، والمعروفة بنزعتها الوطنية.

يرى مراقبون أن تصاعد المدى القومى في أوروبا وعدم اعترافه بالسياسات «العابرة للحدود»، على اعتبار أنها تنتقص كثيرا من سيادة الدول، وهو الأمر الذى يمثل تهديدا صريحا لبقاء أوروبا الموحدة، فى ظل تنافر مبادئها الليبرالية، مع توجهات الزعماء الجدد لدول القارة.

 
النار تلتهم علم الاتحاد الاوروبى
 
ولعل انتخاب التيارات اليمينية للهيمنة على السلطة فى عدة بلدان أوروبية كان بمثابة مقدمة لثورة حقيقية للشعوب، عبر الصناديق الانتخابية، لإعلان التمرد على حكوماتهم، التى طالما تشدقت بالليبرالية، بسبب سياسات أوروبا الموحدة، وعلى رأسها سياسة «الحدود المفتوحة».
 
النيران تلتهم علم الاتحاد الاوروبى
 
إلا أن الحراك الشعبى فى أوروبا تطور، إلى مشاهد عنف وفوضى، وهو ما يتجلى بوضوح فى مظاهرات «السترات الصفراء»، التى رفعت مطالب باستقالة الرئيس إيمانويل ماكرون، وحل الجمعية الوطنية «البرلمان»، فى انقلاب صريح على الديمقراطية التى جاءت بهم، لتمتد بعد ذلك إلى المطالبة الصريحة بالخروج من الاتحاد الأوروبى على غرار بريطانيا.
 
رجل يضرم النار فى علم بريكست
 
وهنا يمكننا القول إن «عدوى بريكست» امتدت بالفعل إلى عواصم أخرى فى دول أوروبا الغربية، وهو الأمر الذى قد يتفاقم مع دخوله إلى حيز النفاذ، فى ظل الغضب المتنامى جراء أداء الحكومات ذات التوجهات التقليدية.
 
«العدوى» لن تقتصر على نطاق دول أوروبا الغربية، وإنما ربما تمتد إلى الجانب الشرقى من القارة العجوز، فى ظل تقارب الملموس مع إدارة ترامب، الذى وضع على كاهله مسؤولية تقويض الاتحاد الأوروبى، منذ بداية حقبته، وهو ما يبدو واضحا فى التوجه الأمريكى نحو أوروبا الشرقية، حيث قررت الإدارة الأمريكية تأسيس قواعد عسكرية فى بولندا، فى إطار رغبتها فى محاصرة روسيا فى محيطها الإقليمى، بالإضافة إلى تقديم الدعم الاقتصادى لهم.
 
رجل يضرم النار
 
توجه أوروبا الشرقية نحو الولايات المتحدة أمنيا واقتصاديا يمثل نتيجة حتمية لعجز أوروبا الموحدة فى إنقاذ العديد من الاقتصادات التى ضربتها الأزمات منذ نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة، سواء فى اليونان أو البرتغال، لتمتد بعد ذلك إلى العمق الأوروبى فى إسبانيا.
 
حاجة دول أوروبا الشرقية للدعم الأمريكى، سواء سياسيا أو اقتصاديا أو حتى أمنيا، يمثل دافعا كافيا لهم لاتخاذ خطوة على طريق الانفصال عن أوروبا الموحدة، لتقديم «قرابين» الولاء للرئيس الأمريكى، فى المرحلة الحالية، وتقديم أنفسهم كحلفاء رئيسيين لواشنطن، فى المستقبل القريب، على حساب دول أوروبا الغربية، التى باتت محرومة من الدعم الأمريكى، منذ قرارات الإدارة الحالية بفرض إجراءات حمائية على الواردات القادمة منهم للسوق الأمريكية، أو التلويح الأمريكى المتواتر بالانسحاب من «الناتو» وتفكيكه إذا لم تفِ الدول الأوروبية بالتزاماتها المالية تجاه الحلف، الذى تتحمل واشنطن القسط الأكبر من تكاليفه المالية، بالإضافة إلى كونها صاحبة المشاركة الأكبر من حيث الجنود والعتاد العسكرى.
 
وهنا يمكننا القول إن التحدى الأكبر الذى يواجه الاتحاد الأوروبى فى مرحلة ما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبى، هو انتشار عدوى الانفصال، التى لم تقتصر على نطاق جغرافى معين، وإنما تمتد إلى كل أرجاء القارة العجوز بين الشرق والغرب، فى تعارض المصالح فى العديد من القضايا، بالإضافة إلى احتدام المنافسة بين الدول الأوروبية لتحقيق أكبر قدر من النفوذ، عبر التقارب مع واشنطن.


-  النموذج الكتالونى مؤشر لاحتمالات فوضى جارفة على المستوى القارى بعد «بريكست».. وبريطانيا قد تواجه نفس المصير فى المستقبل

 

بعيدا عن صراعات النفوذ بين دول القارة، تبقى هناك تحديات كبيرة فى مواجهة دول القارة، لا تقتصر فقط على رغبة شعوب أوروبا فى العودة إلى هويتها الوطنية، على حساب البعد القارى، وهو ما بدا واضحا فى اختيارات الناخبين لتيارات اليمين المتطرف على حساب الوجوه الليبرالية الحاكمة لسنوات، وإنما تمتد إلى تنامى النزعات الانفصالية، فيما يمكننا تسميته بـ«اتساع دائرة التمرد» لتمتد إلى الخروج عن الدول الوطنية، فى ظاهرة تهدد باندلاع فوضى حقيقية ربما تأكل الأخضر واليابس.
 
مؤيدو بريكست
 
النزعات الانفصالية فى أوروبا ليست بالأمر الجديد تماما، إلا أن الوحدة الأوروبية نجحت إلى حد كبير فى إذابتها، عبر سياسات عابرة للحدود، على رأسها حرية الحركة والانتقال بين مواطنى الاتحاد الأوروبى، وهو ما ساهم بصورة كبيرة فى تراجع مفهوم الدولة الوطنية، ليحل محلها البعد القارى، إلا أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى عبر استفتاء 2016، كان بمثابة صفعة للقارة بأسرها لإحياء فكرة الانفصال، ليس فقط على مستوى العلاقة بين الدول والتكتل القارى، وإنما داخل دول القارة نفسها.
 
ولعل النموذج الكاتالونى هو الأكثر بروزا فيما يتعلق بمفهوم الانفصال، حيث شهدت المدن الكاتالونية حالة من الفوضى، تثور بين الحين والآخر، منذ الدعوة إلى استفتاء على برعاية الحكومة الانفصالية، فى عام 2017، إلا أنه لم يكتمل بسبب تدخل السلطات الإسبانية بالقوة لمنع المواطنين من الإدلاء بأصواتهم.
 
 
 
وتأتى خطورة هذا النموذج فى كونه يفتح الباب أمام العديد الحركات التى تدعو إلى استخدام العنف، وعلى رأسها حركة «تسونامى الديمقراطية»،والتى وضعت المتمردين فى إطار تنظيمى قادر ليس فقط على الحشد، وإنما أيضا على إطلاق دعوات لاستخدام العنف، ربما مستلهما نموذج «السترات الصفراء».
 
لم تقتصر حمى الانفصال على إقليم كاتالونيا، فهناك نماذج أخرى، على رأسها منطقة جبل طارق، الساعية للانفصال عن بريطانيا، خاصة بعد «بريكست»، فى ظل رغبة مواطنى الإقليم على البقاء تحت مظلة الاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى ترفضه لندن جملة وتفصيلا، فى الوقت الذى ترى فيه إسبانيا أن تلك المنطقة يجب أن تخضع لسيادتها، بالإضافة إلى كونها أحد المناطق الحساسة للغاية فى ظل ارتباطها بصراعات قديمة بين ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر، بريطانيا، التى كانت أحد أعضاء دول الحلفاء.
 
يبدو أن التاج البريطانى مهدد بصورة كبيرة فى ظل حديث مشابه من قبل أسكتلندا، حول إجراء استفتاء جديد حول الخروج من المملكة المتحدة، وهو الأمر الذى حدث من قبل، ولكنه لم ينجح فى تحقيق الهدف منه بسبب دعم الاتحاد الأوروبى لبقائها تحت السيطرة البريطانية.
 
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كان شبح الانقسامات سيمتد ليطال الدول الوطنية، الأمر الذى بدأت بعض الدول، على غرار إسبانيا، فى التعامل معه بالعنف، فى حين تستخدم دول أخرى التصريحات السياسية لكبح هذا الأمر، مما ينذر باندلاع حروب أهلية فى المستقبل.

 

فرحة مؤيدى بريكست

- من الوحدة إلى الصراع.. القارة العجوز تواجه شبح عودة «العصور الوسطى»  

 

لا تقتصر الأزمة التى تواجهها أوروبا على شبح انهيار الاتحاد الأوروبى، وإنما تمتد إلى مخاوف تتعلق بالتحول من الوحدة إلى الصراع، فى ظل حالة من التنافس بين دول القارة، تجلت بوضوح فى أعقاب الاستفتاء البريطانى على «بريكست» فى 2016، وهو ما ينذر بتطور حالة «المنافسة» إلى حقبة صراعية، تعيد إلى الأذهان زمن العصور الوسطى، التى تحاربت فيها الإمبراطوريات القديمة طمعا فى مزيد من الهيمنة والسيطرة والنفوذ.
 
ولعل أول ما يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن الصراعات الأوروبية حول النفوذ، هو التنافس الحالى بين ألمانيا وفرنسا حول قيادة الاتحاد الأوروبى، الذى بدأ منذ عام 2017، عندما صعد الرئيس الفرنسى الشاب إيمانويل ماكرون إلى سدة «الإليزيه» حاملا معه خطة لإصلاح الاتحاد الأوروبى، ليضع نفسه باعتباره القائد الجديد، للقارة العجوز، بديلا للمستشار الألمانية أنجيلا ميركل، التى قادت أوروبا الموحدة لسنوات طويلة، بلغت أوجها فى عهد إدارة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، الذى جمعته بها علاقات وطيدة، على حساب كل القوى الأوروبية الأخرى.
 
محاولات ماكرون لقيادة أوروبا الموحدة، فى إطار رغبته القوية فى استعادة النفوذ الإمبراطورى، تجلت بوضوح فى محاولاته المتواترة لاسترضاء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، خاصة أن ألمانيا لم تعد تحظى بقبول واشنطن فى ظل إدارته، إلا أنه فشل فى ذلك بسبب رغبة أمريكا القوية فى تقويض الاتحاد الأوروبى، وبالتالى فإن توجهات ماكرون الأوروبية لم تنل رضا ترامب، ليتحول بعد ذلك نحو إطلاق دعواته للإصلاح، تارة فيما يتعلق بالاقتصاد، عبر الدعوة إلى خارطة طريق طموحة، من خلال رصد ميزانية موحدة للتكتل القارى، وتعيين وزير للمالية، أو من الناحية الأمنية، عبر مبادرته لتشكيل جيش أوروبى موحد، وهو التصريح الذى أثار امتعاض أمريكا.
 
وعلى الرغم من مجاراة ألمانيا للمبادرات الفرنسية فى البداية، فإن الخلافات تأججت بصورة كبيرة، فى الأشهر القليلة الماضية، عندما أطلق الرئيس الفرنسى تصريحات وصف فيها حلف الناتو بـ«الميت إكلنيكيا»، وهو الأمر الذى أثار برلين بصورة كبيرة، حيث وصفها وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس بأنها تدفع بقوة نحو تقسيم أوروبا، مؤكدا أن الحلف الذى تقوده الولايات المتحدة يبقى الأساس لحماية القارة العجوز، وهو التصريح الذى لا يقتصر فى نطاقه على انتقاد الطموح الفرنسى الجامح، وإنما يحمل فى طياته محاولة صريحة لمغازلة إدارة ترامب، عبر التأكيد على دور أمريكا المحورى فى حماية حلفائها الأوروبيين.
 
إلا أن الصراع الأوروبى – الأوروبى لا يقتصر على مجرد المنافسة الألمانية الفرنسية على قيادة الاتحاد الأوروبى المترهل، ولكنه يمتد إلى طموحات بريطانيا «الجديدة»، التى تسعى إلى قيادة القارة من خارج أوروبا الموحدة، وهو الأمر الذى يبدو فى الكثير من الملفات، التى تسعى فيها الحكومة البريطانية إلى اتخاذ زمام المبادرة بها، من أجل إجبار الحلفاء الأوروبيين على الدوران فى فلكها، بالإضافة إلى العلاقة القوية التى تجمع رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون بإدارة ترامب.
 
مظاهرات مؤيدى بريكست
 
محاولات بريطانيا لاستعادة النفوذ المفقود تجلت بوضوح، منذ حكومة تيريزا ماى، التى سعت إلى استغلال محاولة تسميم العميل الروسى المزدوج سيرجى سكريبال، على الأراضى البريطانية، لقيادة دول المعسكر الغربى، وفى القلب منهم دول أوروبا، فى صراع مع روسيا، إلا أن محاولتها باءت بالفشل بسبب الموقف الأمريكى الفاتر من جانب، بالإضافة إلى الغضب الأوروبى من لندن على خلفية «بريكست»، إلا أن جونسون أعاد المحاولة عبر زيارته للقوات البريطانية المتمركزة فى أستونيا، تحت مظلة الناتو، التى تحمل فى طياتها «مقايضة» حول ثمة ارتباط بين العلاقة التى ستجمع بريطانيا بمحيطها الأوروبى من ناحية، والدور البريطانى فى حماية أمن القارة العجوز من التهديدات القادمة روسيا من جانب آخر.
 
رئيس الوزراء البريطانى نجح فى امتلاك زمام المبادرة، فيما يتعلق بتغيير الموقف الأوروبى من الأزمة الإيرانية، حيث كان أول من دعا إلى استبدال الاتفاق النووى مع طهران، باتفاق جديد، وهو الأمر الذى يتوافق مع رؤية الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ليتبعه بعد ذلك وزير الخارجية الفرنسى جان إيف لو دوريان، الذى شكك فى صلاحية الاتفاق القديم، مشيرا إلى الحاجة إلى صفقة جديدة مع طهران.
 
وهنا يصبح صراع النفوذ بين القوى الرئيسية فى القارة العجوز بمثابة عنوانا مهما لمرحلة ما بعد «بريكست»، فى ظل رغبة القوى الأوروبية القديمة «بريطانيا وفرنسا» استعادة نفوذها الإمبراطورى، فى الوقت الذى صعدت فيه قوى جديدة لا يمكن تجاهلها فى المعادلة القارية الجديدة، وعلى رأسها ألمانيا، ليثور التساؤل حول طبيعة التطورات التى قد تشهدها الصراعات الأوروبية الجديدة فى المستقبل القريب، خاصة فى ظل تعارض المصالح فيما بينهم.
 

 

مؤيدو بريكست فى لندن

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق