في حضرة الظلام

الثلاثاء، 11 فبراير 2020 02:49 م
في حضرة الظلام
محمود الغول يكتب :

لم أعرف في حياتي مظلوما مثل الظلام، ذلك الذي نغتاله في اليوم والليلة آلاف المرات، حين نلعن تلك المساحة الانهائية من السواد نتغنى بالنور.
 
إذ يبدو النور في مخيلاتنا رجلا طيبا: أشيب الشعر، واسع العينين، ضحوكا، في كفيه تنساب ينابيع الخير ويقطر من بين أصابعه المرح.
 
أما الظلام، فنراه عجوز شريرة، من عينيها يتطاير الشرر، وتحت أظافرها يبيت الشر، إن ضحكت قهقهت في خبث، وإن عقدت جبينها فإنما نحن في طريق اللاعودة.
 
لكن..هل حقا هكذا يبدو الأمر؟ من قال إن الظلام وحشا مفترسا، ينقض على الأحلام فيخنقها لتستحيل جثث تملأ طرقات المستقبل! من جعله أعمى لا يَرى ولا يُرى!
 
لو كان بيننا من يمعن النظر ويحترف التأمل لرأى الظلام كما يجب أن يكون، فهو في حقيقته شابا نبيلا وسيما دائم التبسم، يرتدي رداء فضفاضا تسافر أطرافه في كل الدنيا، يتحدى الريح والعواصف في شدة، لكنه أرق من النسيم في حضرة من يحتاجه..
 
هنا لن ألعن النور كي أنتصر للظلام، فليس من العقل أن نشوه أحدهما لنعيد للآخر حقه، كما أنهما ليس ضدان، بل إن النور نفسه لم يكن يوما مختالا فخورا بما يسمعه من مديح على حساب الظلام، فقد رأيت بعيني النور وهو يبكي حين سمع أحدهم يسب السواد الذي يخلفه حين يرحل..
 
لهذا فخلافي ليس مع النور، لكنه مع هؤلاء الذين يسبون الظلام دون أن يفكر أحدهم في جوهره..
 
معظمنا يظن أن الحقيقة هي ما كل ما يراه بعينه، لكن بعضا فقط من ينجو من هذا الفخ ويعي أن السراب أيضا يتجسد أمام الأعين كما الحقيقة، لكنك حين تقترب منه لا تجده..
 
إن أنت دققت النظر ومنحت الظلام حقه في أن يرى على حقيقته، ستجده طيبا على نحو واسع، فهو الستر حين تتضخم الفضيحة، وهو الهدوء حين يتمدد الصخب بين ذرات الهواء المحملة بروث الأعين المتربصة..
 
صحيح أن النور لا يلتقي الظلام أبدا لكنهما رفيقان في كل الأماكن والأزمنة..
 
فحين ينسحب النور – لأي سبب كان – يأتي الظلام ليشغل المساحة التي تخلى عنه رفيقه، فيستره ويسترنا، ويملأ الفراغ الذي لو أتيحت له الفرصة لجعلنا نتلاشى كما يتلاشى الفرح حين يستيقظ الحزن في الصباح.
 
النور هو اللاشيء أما الظلام فهو الشيء الذي يحل محله. الأول فراغ أما الثاني فهو امتلاء. 
 
بالأمس سمعت من يهلل حين رأى الظلام يغادر مكانه مع أول ضوء للشمس، إذ قال إن السواد انسحب مقهورا أمام البياض، ولم يكن صاحبنا هذا محقا، فقد كان ساذجا بدرجة مثيرة للشفقة، فهو لم يستوعب نبل الظلام الذي انسحب في هدوء ليمنح النور فرصة للتواجد أمام أعين الناظرين المتتظرين.. 
 
بكل نبل يتوارى الظلام، مفسحا للنور، وهو يبكي محترقا حين يسمع بأذنيه الكبيرتين ما تلوكه الألسنة من أكاذيب وأساطير حول جبنه وهروبه المتواصل، ومع ذلك لا نسمع له صوتا يدافع به عن نفسه، بل إنه لا يسمح لغريزة الانتقام أن تتملك منه، بأن يتخلى عن الكون حين يغيب النور، فيأتي في موعده دوما دون لحظة تأخير كي يشغل بسواده العظيم كل المساحات التي خلت بغياب الغياب.. فالنور هو انعدام اللون، والظلام هو اجتماع كل الألوان.
 
كل المحبة للظلام، الذي لولاه لانكشف تخاذل النور، ولسقط الستر الذي فيه وبه نحتمي.

 

تعليقات (1)
تحية وتقدير
بواسطة: Asmaa Kamel
بتاريخ: الأربعاء، 12 فبراير 2020 09:44 ص

مقال رااااائع تحياتي ??

اضف تعليق