قرض 20 بطة؟

السبت، 14 مارس 2020 12:16 م
قرض 20 بطة؟

فجأة اشتعل «فيسبوك وتويتر» سخرية، و«تريقة» على تصريح لمحافظ البحيرة، اللواء هشام آمنة، أعلن فيه عن توزيع 1700 بطة «مسكوفي» كـ«قرض» لـ85 أسرة «فقيرة» في المحافظة، بواقع 20 بطة قيمتها 1500 جنيه للأسرة، مؤكدا على تقديم كل الدعم للمشروعات «متناهية الصغير» خاصة بالقرى الأكثر احتياجًا.
 
بالفعل.. تصريح سيادة المحافظ عن «قرض البط» قد يبدو مثيرًا للسخرية، ومادة خصبة لـ«التريقة»، بل والهجوم على النظام الذي يمثله اللواء «آمنة» في البحيرة، وخاصة من جانب المرضى الذين يعانون من المعارضة على أنفسهم، أو جانب من «أثرياء الحرب» و«عِلْية القوم» الذين لا يمثل لهم مبلغ القرض- «1500 جنيه»- إلا ثمن وجبة في أحد المطاعم، أو ثمن مشروب في «كافيهاتهم» التي اعتادوا ارتيادها.. هؤلاء أتفهم سخريتهم، وأعلم دوافعها، وأهدافها الخبيثة.. 
 
لكن ما لا أتفهمه هو سخرية بعض الصحفيين والإعلاميين، والذين يحملون لقب مثقفين، أو اقتصاديين، ومَنْ هم على شاكلتهم! فعلى الرغم من غرابة نوع القرض «20 بطة مسكوفي»، وضآلة مبلغ القرض «1500 جنيه» إلا أن أحدًا «منصفًا» لا يمكنه التشكيك في أن مثل هذه النوعية من المشروعات «متناهية الصغر» تسهم إسهامًا- ولو يسيرًا- في دفع اقتصاد البلاد إلى الأمام.. كما تسهم- بشكل كبير- في تخفيف الأعباء عن كاهل الأسر «محدودة أو معدومة الدخل»، في القرى والنجوع الفقيرة والأكثر فقرًا، والتي لم تحظ بما حظيت به مثيلاتها من خدمات ومشروعات تنموية تدر على أهلها دخولًا كبيرة.. 
 
نعم «قرض البط» قد يكون مثيرًا للسخرية، لكن ألا يعلم الساخرون منه أنه مناسب جدا لبعض أهالينا الذين يقتلهم الفقر، ويتعلقون بأي شيء يغنيهم عن «ذل السؤال» والوقوف أمام بيت الذين لا يساوون شيئًا؛ ليجودوا عليهم بالفتات ليعولوا به أبناءهم؟ ألا يعلم هؤلاء أن هذا مشروع البط، ومبلغ القرض الذي يبدو تافهًا- بالنسبة إليهم- قد يكون طوق نجاة لأرباب أسر كثيرة لا يسألون الناس إلحافًا، وتحسبهم أغنياء من التعفف؟
 
«الأريافجية»- مثلي- يعلمون ويدركون أهمية مشروع كـ«تربية الطيور» لفقراء القرى، خاصة النساء اللائي يربين الطيور، ويبعن بيضها، أو يبعنها وبثمنها تنفق منه على أولادها، أو تذبح إحداها إكرامًا لضيفٍ عزيز، مثلما كانت فعلت أمي- رحمها الله- وتفعله أمهات كثيرات في القرى، تتساوى في ذلك أمهاتنا في الوجه البحري والصعيد.
 
بلغة كثير من أهالينا «الغلابة»، فإن «قرض الـ20 بطة» قد يعني  «الستر»، أو جزء منه للذين هم تحت خط الفقر، البالغ عددهم أكثر من 30 مليون نسمة، بحسب آخر تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الصادر في يوليو 2019.. وبلغة الاقتصاد فمثل هذه المشروعات «متناهية الصغر» تساهم فى تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، وتعمل على مواجهة البطالة بالقرى، بالإضافة إلى المساهمة في خفض أسعار الطيور في الأسواق، عن طريق زيادة المعروض.
 
والذين سخروا من مشروع البط، ونالوا منه، وأشبعوه «تريقةً»، و«تقطيعًا».. تناسوا، وتعمدوا عدم ذكر أن قرض الـ20 بطة مسكوفي «دون مقابل»، ويحصل المستفيد منه على مبلغ إطعام البط، بعد المرور بمراحل الكشف البيطري، بحسب المهندس حازم الأشمونى، سكرتير عام محافظة البحيرة، والذي أكد أن المستفيد يسترد القرض «1500 جنيه» بعد بيع المنتج، في فترة لا تتعدى 3 أشهر، هي مدة دورة التربية!
 
أيها الساخر من مشروع تربية الطيور، أو «قرض البط المسكوفي».. أما سمعت عن «قرى بلا بطالة»، مثل قرية ساقية أبو شعرة في المنوفية، المتخصصة في السجاد اليدوي، وقرية إمياي في القليوبية المتخصصة في صناعة جريد النخل، وقرية الأعلام في الفيوم، المتخصصة في صناعة الخوص والمقاطف، وقرية سلامون القماش في الدقهلية، والمشتهرة بالتطريز والتريكو وصناعة الملابس الشتوية؟ إن كنت لم تسمع عنها فدعني أُحدث لك منها ذكرًا.. إنها قرى احترف أهلها مهنًا وصناعات قد تبدو لك «وضيعة»، لكنها- والله- عظيمة، وفرت لممتهنيها عيشة كريمة، وكفتهم «سؤال اللئيم»، بل ويصدرون منتجاتهم للخارج!
 
تخيل- أيها الساخر- لو أن كل أهل قرية من قرى مصر امتهنوا مهنة، أو احترفوا صنعة، أو تبنوا مشروعًا بعينه، ماذا سيكون الحال؟ سيكون لدينا قرى منتجة لا تعرف البطالة إلى أهلها طريقًا؛ فهذه قرية تخصصت في تربية الطيور، وثانية مختصة بتربية الماشية، وثالثة في صيد الأسماك، ورابعة بزراعة الورد، وخامسة في الخردة وتدوير القمامة، وسادسة الملابس، وسابعة، وثامنة.. لنصل في النهاية إلى أن يكون لدينا قرى متكاملة فيما بينها، تقضي على البطالة، وتغذي المصانع الكبيرة، كما فعلت الصين، ودول شرق آسيا. 
 
وإذا كان من حقك أن «تسخر» و«تتريق» على «مشروع البط»، وتسفه منه، وتقلل من شأنه، وشأن مشروعات أقل منه، فمن واجبي أن أذكرك بأن دولة بحجم الصين- «ثاني أقوى اقتصاد في العالم» والتي تطالب حضرتك بأن نسير على نهجها- كانت المشروعات «الصغيرة والمتوسطة، ومتناهية الصغر» أحد دعائم نهضتها الاقتصادية، كما كانت سببًا من أسباب نهضة دول عدة من الدول التي يطلق عليها النمور الآسيوية!
 
فحتى العام 1978، كانت الصين تعاني اقتصاديًا؛ الفقر يضرب البلاد، والبطالة منتشرة بين معظم الفئات.. فقررت بكين المضي نحو تنمية شاملة، بدأت تحصد ثمارها عام 1993، إذ قفز معدل النمو بها إلى أعلى من المتوقع، مسجلًا 13%.. واستغلت عدد سكانها الهائل لخفض تكلفة منتجاتها، «من خلال دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة والأسر المنتجة، ومنح تسهيلات للقروض طويلة الأجل»، حتى تحولت المنازل إلى ورش عمل صغيرة ساهمت في توفير متطلبات الإنتاج للمصانع الكبيرة، وتوفير احتياجات المواطنين.. فانخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر إلى %4.2 عام 2014، وتعهدت الحكومة بالوصول إلى معدلات «صفرية» لفقراء الريف خلال العام الحالي 2020.
 
وبحسب إحصاءات رسمية صينية، فإن المشروعات متناهية الصغر، والصغيرة، والمتوسطة تشارك بنحو 60% من الإنتاج الصناعي للصين، ويعمل فيها نحو 75% من القوى العاملة.. كما حفز انتشار المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الاستثمار الأجنبي إلى القدوم إلى بكين، لتصبح الصين ثاني أكبر مستقبل للاستثمارات في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
 
إذن، المشروعات «متناهية الصغر» ودعهما، وتييسيرها ليس بدعة مصرية، بل تبنتها أعظم الدول الاقتصادية في العالم.. والحكومة المصرية- التي قد تختلف مع بعض سياستها- قدمت العديد من المبادرات مع البنك المركزي المصري؛ لتمويل وتشجيع المصريين على مثل هذه النوعية من المشروعات، التي بلغت أكثر من 65 ألف مشروع متنوع، ما بين «صغير، ومتوسط، ومتناهي الصغر» واستفاد منها أكثر من مليون مواطن، بحسب بيانات رسمية من مجلس الوزراء ووزارة التخطيط.. بهدف تقليل البطالة، وتشجيع العمل الخاص، وتحفيز المواطنين نحو ثقافة العمل الحر، وعدم الانتظار فى طوابير الوظائف.
 
أعلم أن الدولة تتجه بقوة نحو التوسع في دعم وتمويل المشروعات «الصغيرة، والمتوسطة، والمتناهية الصغر»، بعد استيفاء دراسات الجدوى الخاصة بكل مشروع.. وما من شك أن مستقبل مصر قد يكون في مثل هذه المشروعات- ومنها مشروع «تربية البط»- التي تتكامل مع بعضها البعض، وتصب في النهاية في خانة الاقتصاد المصري، الذي ينتظر إرادة سياسية جادة، ورؤية ثاقبة؛ لينطلق نحو تنمية شاملة، متسلحًا بتخطيط علمي مدروس،  على غرار التجربة الصينية؛ لنجني ثماره في سنوات معدودات، وتصبح مصر قوة اقتصادية لا تقل عن دول النمور الآسيوية، بل تزيد عنها. 
 
نعود إلى تصريحات سيادة اللواء، هشام آمنة، عن «قرض البط».. فالمؤكد أنها لم تستحق هذه الحفاوة الإعلامية، ولا هذا التواجد الواسع في وسائل الإعلام، كدليل على أن المحافظ «شغال»، خاصة وأن هناك مشروعات أكثر أهمية، وأفكار ورؤى تنموية أعظم وأفضل من العشرين بطة.. وكان من الأفضل ألا تُقال هذا التصريحات في قنوات فضائية تحظى بمشاهدة عالية، بل الأنسب أن تُقال بينه وبين مساعديه، أو تنشر في الموقع الإلكتروني للمحافظة، كأي خبر عادي، مثلها مثل مشروع «بطارية الأرانب»، أو «دورة الفراخ البيضا»، لا باعتبارها «إنجازات» لسيادته!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة