ابن تيمية.. حجة الإسلام أم عرَّاب الإرهاب؟ (1)

السبت، 16 مايو 2020 09:00 م
ابن تيمية.. حجة الإسلام أم عرَّاب الإرهاب؟ (1)
أيمن عبد التواب

 سر ارتباط «شيخ الإسلام» بالجماعات التكفيرية.. ولماذا لا يعترف الأزهر بـ«مذهبه» ويرفض تدريس كتبه؟

كيف فندت دار الإفتاء فتوى ابن تيمية بـ«قتال الجيش وتحريم الالتحاق بصفوفه»؟.. ومَنْ هم «جُنْدِ الطاغوت» و«جيش الردة» و«الفئة الممانعة» الذين يقصدهم ابن تيمية؟

 

 

«ابن تيمية».. ذلك الاسم المثير للجدل، المختلف عليه.. المتنازع عليه من فريقين؛ أحدهما يعتبره فقيهًا مجددًا، وآخر يراه مبتدعًا ضالًا.. جماعة تغالي بوصفه بـ«حجة الإسلام»، وأخرى تبخسه بوصمه بـ«عرّاب الإرهاب والتكفير».. مؤيد له يراه محييًا للسنّة، ومعارض يعتبره أحدث شرخًا في الإسلام.. محب يعتبره مصلحا تنويريًا ثائرًا، كاسرًا الجمود الفقهي.. وكاره يراه باحثًا عن الشهرة بمخالفة جمهور الفقهاء.. وما بين هذا وذاك يقف الرجل، ليحاكم هو وإرثه بعد قرون من وفاته.. منتظرًا الإدانة، أو البراءة..

في أعقاب العمليات الإرهابية، يشار بأصابع الاتهام إلى تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني، المشهور باسم «ابن تيمية»، باعتباره أحد المصادر التي يتكئ عليها تكفيريون وإرهابيون لتبرير جرائمهم.. فهل كان الرجل متشددًا حقًا؟ وهل فقهه يدعو إلى «التكفير» الذي يعتنقه التكفيريون؟ وإذا كان كذلك، فلماذا يدرس طلاب العلوم الشرعية في الأزهر وغيره آراءه؟

 قبل الشروع في الإجابة عن الأسئلة السابقة، نشير إلى أن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- أرجع التكفير إلى ذهاب مسلمين إلى آيات قرآنية نزلت في المشركين فجعلوها في المسلمين، مثلما فعل الخوارج. وجاء في الحديث الشريف: « إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئا للإسلام، غيَّره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك. قيل يا رسول الله: أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي؟ قال: بل الرامي».

ابن تيمية.. مجدد أم مبتدع؟

كان «الخوارج» أول مَنْ انتزعوا الآيات من سياقها، فخرجوا على الإمام علي بن أبي طالب، وكفَّروا غيرهم من المسلمين، فكان بداية الفكر التكفيري من عام 37 إلى 82هـ، حيث قَتَّلهم الحجاج بن يوسف الثقفي، وانهزموا فكريًا وواقعيًا، وظل الحال هكذا إلى أن جاء «ابن تيمية»، حيث قَسَّمَ «التوحيد»- لأول مرة- إلى: «توحيد ربوبية، وألوهية، وصفات». فاتُهِمَ بـ«الزندقة والإفساد»، وسُجن واُستتيب أكثر من مرة، إلى أن توفي في سجن قلعة دمشق.

وفي كتابه «الدرة المضية في الرد على ابن تيمية» يقول تقي الدين السبكي، وهو أحد الذين عاصروه: «أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام والأركان والمعاقد، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنة، مظهراً أنه داعٍ إلى الحق هادٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع. وجاء ببدع لم تأت بها أي من الملل ولا النحل ولا الطوائف الإسلامية».

بداية الفكر التكفيري

ارتبط إرث ابن تيمية- الذي تبنته الحركة الوهابية- بالجماعاتٍ التكفيرية التي سارت على نهج الخوارج؛ فانتزعوا آيات قرآنية نزلت في المشركين وأسقطوها على المسلمين، وطوعوا الأحاديث النبوية، خاصة المتعلقة بالجهاد، لخدمة أفكارهم المتطرفة.

ورصد كتاب «مرجعيات العقل الإرهابي: المصادر والأفكار» الصادر عن مركز المسبار عام 2018 بعض المصادر النظرية التي يستند إليها هؤلاء، فقال إن هذه الجماعات «نزعت أفكار ابن تيمية عن سياقها التاريخي المرتبط بالتصدي للمغول التتار. هذه الاستعادة جعلت أفكار تطبيق الشريعة، والحكم بغير ما أنزل الله، وتكفير الحكام وأعوانهم، تقف على خط واحد مع أفكار تكفير المجتمع وتجهيله، وتخلق من الجماعة التي تصدر الأحكام أصلًا متعاليًا، ينعزل عن المجتمع والحاكم، ويتفرّغ لإصدار قرارات التكفير، وما إن تمت عملية الأدلجة باستغلال الظروف السياسية والاجتماعية حتى بدأت رحلة العنف.

مذهب ابن تيمية

لم يكن ابن تيمية- الذي يلقبه بعضهم بـ«شيخ الإسلام»- متعصبًا لمذهب معين، وفي ذلك يقول، عن نفسه، في كتابه «مجموع الفتاوى»: «مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدعُ أحدًا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا أذكره في كلامي، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها».

وقال عنه مفتي الجمهورية السابق، الدكتور علي جمعة، إنه «كان عالمًا واسع الاطلاع، لكنه لم يكن له شيخ معتمد، كما توفرت فيه عدة أمور منها أنه كان حاد الذكاء والمزاج». موضحًا- في لقاء متلفز- أن «الذكاء صفة إيجابية، لكن لكونه حاد المزاج وليس له شيخ، أصبحت صفة سلبية، ما جعله يترك إنتاجًا وفيرًا، كثير الأخطاء خاصة في مجال العقيدة. كما جاء بأشياء غريبة عجيبة مخالفة لمفهوم الناس»، بحسب قوله.

ومن الفتاوى التي خالف فيها ابن تيمية جمهور الفقهاء، حكم شهادة غير المسلمين على المسلمين، فالأصل أنه لا تقبل شهادتهم، وحدد بعض الفقهاء حالات بعينها تقبل فيها هذه الشهادة، منها أثناء السفر على الوصية للضرورة، إلا أن ابن تيمية قال بالجواز في كل ضرورة، مخالفًا رأي الجمهور.. وهو الرأي المعمول به في القانون المصري.

فضلًا عن ذلك، فإن ابن تيمية خالف علماء عصره، وأفتى بوقوع الطلاق ثلاثًا «طلقة واحدة».. وأفتى بعدم وقوع الطلاق إلا في طُهر، بمعنى لا يقع طلاق المرأة الحائض.. كما أفتى بالكفارة عن يمين الطلاق.. وكلها أمور حُورِب وتعرض للتشنيع بسببها باعتباره «خرق الإجماع وخالف الجمهور».

فتاوى القتل

ربما تعرض ابن تيمية للظلم مرتين: من محبيه الذين تخلوا عنه، ومن خصومه الذين نالوا منه، كما أن بعض فتاويه وآرائه وأفكاره تعرضت لسوء فهم مرتين؛ مرة من محبيه بالقراءة المغالية المصحوبة بعاطفة دينية قوية. وأخرى من خصومة بقراءة رافضة له، ومتحيزة ضده، لكن هل معنى ذلك أن «ابن تيمية» لم يكن متشددًا، وأن له فتاوى كثيرة تحض على القتل؟

لم يقل أحد بذلك. فشأنه شأن أي عالم مجتهد، يصيب ويخطئ، وله فتاوى في مجالات شتى، وله عثرات وآراء خالف فيها كثير من جمهور العلماء السابقين، خاصة في مسائل متعلقة بالعقائد، و«تقسيم التوحيد» ورأيه في «التجسيد».. وله أيضًا فتاوى «قتل وتكفير» مرتبطة بسياق تاريخي، لكن «التكفيريين» انتزعوها من سياقها، وأسقطوها على مخالفيهم.

على سبيل المثال، اتخذ هؤلاء من فتوى «أهل ماردين»، سندًا لتبرير جرائمهم باسم الإسلام.. وهي الشبهة التي فندتها وردت عليها «أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية» في 14 أغسطس 2011، برقم مسلسل «2425»، وبرأت فيها ابن تيمية، وأنصفته؛ لأنها كانت متعلقة بقتل التتار الذين استولوا على بلدة «حَرَّان» المسلمة، و«بغوا فيها بأعظم أنواع البغي والفجور، فهي بلد أهله مسلمون والمتغلب عليه ويحكمه غير مسلمين».

لكن- والكلام لدار الإفتاء- المتطرفين، وغير المتخصصين، حرفوا فتوى ابن تيمية واستبدلوا كلمة «يعامل» قوله: «ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه»، بكلمة «يقاتل»، «ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام»، وبذلك برروا القتل والعنف والتخريب وترويع الآمنين من المسلمين وغير المسلمين.

تحريم الالتحاق بالجيش والشرطة و«جُنْدِ الطاغوت» و«جيش الردة»

في كتاب «الفريضة الغائبة»- الذي يعتبر من أهم المراجع عند الدواعش والتكفيريين- استشهد مؤلف الكتاب، محمد عبد السلام فرج، بما يزعم أنه فتوى لابن تيمية؛ لـ«تحريم الالتحاق بالجيش والشرطة»، قائلًا تحت عنوان «حكم من يخرج للقتال في صفهم مكرهًا»: «يقول ابن تيمية ص 292 أيضًا،  فإنه لا ينضم إليهم طوعًا من المظهرين الإسلام إلا منافق أو زنديق أو فاسق فاجر، ومَن أخرجوه معهم مكرهًا فإنه يثبت على نيته، ونحن علينا أن نقاتل العسكر جميعه، إذ لا يميز المكره من غيره»!

إلا أن كتاب «الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية» المجلد العاشر صـ3745، أثبت أن استشهاد صاحب «الفريضة الغائبة» بابن تيمية «استشهاد مبتور»، وأن ابن تيمية كان يتحدث عن الانضمام لصفوف «السلاجقة والتتار»، فقد لجأ «قازان»، قائد جيش التتر، إلى خدعة لتشتيت جيش المسلمين في الشام ومصر، ودخول دمشق، فادعى إسلامه، وسمى نفسه «محمود غازان»، وتبعه جنوده، وأعلن أنه سيحارب تحت راية الخليفة العباسي، فرأى كثير من المسلمين عدم مقاومتهم ما داموا قد أسلموا.. ونجحت حيلة التتار وهزموا المماليك ودخلوا دمشق وعاثوا فيها فسادًا، وأحدثوا مذبحة عامة.

وبعد نجاح خدعة إسلام التتار ودخولهم دمشق- أصدر ابن تيمية فتوى بقتال التتار، «جيش الطاغوت»، كما أفتى بـ«رِدّة جنود التتر ووجوب قتلهم» حتى وإن نطقوا الشهادتين، وسماهم «الفئة المانعة»، موضحًا أنهم: «يمنعون إقامة شعائر الله، ويقتلون المسلمين، ويستبيحون الأعراض، ويسرقون وينهبون، وينطقون بالشهادتين لخدعة المسلمين». وبلغ به الأمر إلى أن قال: «لو رأيتموني في هذا الجانب- جانب التتار- وفوق رأسي المصحف فاقتلوني»!

من هنا جاءت فتوى تكفير الجيوش الناطقة بالشهادتين، وظهور مصطلحي «جند الطاغوت» و«جيش الرِدّة». كما جاءت فتوى «قتل المجاهر بالنية»؛ لأنها كانت من فعل التتار مدّعي الإسلام، إذ كانوا يندسون وسط جيش المسلمين؛ تأكيدًا لخدعة دخولهم الإسلام.. وبعد هذه الواقعة بأربع سنوات انتصر المماليك بقيادة الناصر محمد بن قلاوون على التتار في معركة شقحب 1303م، التي شارك فيها ابن تيمية جنديًا مقاتلًا.. ومعلوم أن «فتاوى المناسبات لا يؤخذ منها حكم عام، والفتوى قد تتغير بتغير الظروف».

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق