كورونا والكمامة وفلسفة العقاب

الخميس، 11 يونيو 2020 06:55 م
كورونا والكمامة وفلسفة العقاب

(1)
 
قبل العام 2010، أتذكر أن بعض وسائل الإعلام تداولت ما فعله ضابط مصري مع قائدي المركبات، خلال مباشرة عمله بأحد كمائن الطرق الصحراوية.. الضابط كان مسؤولًا عن تحرير المخالفات للسائقين الذين لم يلتزموا بالسرعة القانونية المقررة على الطريق.. إلا أنه لم يكن يفعل، ولم يحرر مخالفة، بل كان يعطي السائق «شيكولاتة»! 
 
نعم.. كان الضابط المسؤول يقابل قائدي المركبات الذين يتجاوزون السرعة بـ«وردة»، أو يعطي كل واحد منهم «شيكولاتاية» من العلبة التي يضعها على ترابيزة خشبية خلف الحاجز المروري.. وبابتسامة «غير حكومية» يقول للسائق: «أنت لو مش خايف على نفسك من تجاوز السرعة، فإحنا خايفين عليك.. وفيه ناس تانية خايفة عليك ومنتظرينك ترجع لهم بالسلامة»!
 
ربما يكون ضابط المرور «الاستثنائي» أضاع على الدولة حفنة من الجنيهات، لكن المؤكد كان يسعى- بصنيعه الفريد- إلى الحفاظ على الأرواح الإنسانية، وزيادة الوعي عند قائدي المركبات بإقناعهم بأن لهم «قيمة» عند الدولة.. وأن هناك مَن يحرص على حياتهم.. وأن وجودهم مهم لأشخاص آخرين ينتظرون عودتهم سالمين؛ كالأب والأم، والزوجة، والأبناء، والأهل، والأحباب.
 
(2)
 
في فبراير من العام 2018، ألزمت القاضية اللبنانية «المسيحية»، جوسلين متَّى، ثلاثة من الشباب «المسلمين» بحفظ آيات من سورة «آل عمران» تحكي قصة السيدة مريم، وتمجدها، وذلك كنوع من عقابهم بدلًا من الحكم عليهم بسجنهم؛ جراء سخريتهم من بعض الشعائر الدينية التي تخص الآخرين.. وما إن أتم الشبان الثلاثة حفظ الآيات القرآنية، أُطلق سراحهم. 
 
المؤكد أن القاضية «جوسلين»، قاضية استثنائية، وتختلف عن غيرها من القضاة الذين لا يبرحون نصوص القانون، ويلتزمون بالعقوبة التي تقررها مواده.. بينما هي حلقت فوق سماء القوانين، وأعطتها من روحها؛ فجاء قرارها، الذي هو- برأيي- قمة العدالة والحكمة في توقيع العقوبة المناسبة، وتطبيق عملي لفلسفة العقاب، والهدف منه.. كما أنه درس لتعليم وإرساء المفاهيم المشتركة بين المسلمين والمسيحيين، ودرس للتعايش مع الآخرين، واحترام شعائرهم وطقوسهم الدينية. 
 
(3)
 
هناك رواية منسوبة للشيخ محمد الغزالي، تقول إن شابًا سأله عن «حكم تارك الصلاة»، فأجابه: «حكمه أن تأخذه معك إلى المسجد، وتعرفه كيف يصلي»، ثم عقَّبَ بقوله: «كن داعيًا قبل أن تكون قاضيًا»! 
 
قطعًا الغزالي- رحمه الله- لم يكن يقصد أن يلغي الحكم الشرعي لتارك الصلاة، كما قد يتبادر إلى أذهان بعضنا؛ بل لأنه أدرك أن هدف الإسلام ليس معاقبة تارك الصلاة، بل تقديم كل وسيلة لإقناعه وترغيبه في الصلاة، وتحبيبه فيها.. إضافة إلى الحرص على عدم إظهار الإسلام بمظهر  الدين يهدف إلى إقامة الحدود، وإنزال العقاب على المخالفين دون إقناعهم بأركانه، ودعوتهم بالتي هي أحسن، لا بالتي هي أقسى وأعنف! 
 
(4)
 
في 19 مايو المنصرم، أصدر رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، قرارًا في إطار الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا المستجد «كوفيد 19»، ويلزم العاملين والمترددين على الأسواق والمنشآت الحكومية والبنوك، أو أثناء التواجد بجميع وسائل النقل الجماعية، سواء العامة أو الخاصة بارتداء الكمامات الواقية، ويُعاقب المخالف بغرامة لا تتجاوز 4 آلاف جنيه.. على أن يسري القرار من 30 مايو، وحتى 15 يونيو! 
 
ظني أن قرار رئيس الوزراء «متسرع»، وطُبِخَ على عُجالة، 
ومن الصعب تطبيقه، في ظل عدم توافر الكمامات «الطبية السليمة» في الصيدليات، وإن توافرت، فكثير من مستغلي الأزمات يبيعونها بأزيد من سعرها الحقيقي عشر مرات، في غياب الرقابة على الأسواق. 
 
إن كانت الحكومة تقصد بهذا القرار «تخويف الناس» فهي مخطئة.. فلدينا- وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء- أكتر من 30 مليون مواطن يعيشون «تحت خط الفقر».. والموت عندهم يتساوى مع الحياة.. بل إن كثيرًا منهم ينتظرون الموت للخلاص من معاناتهم اليومية.. والأفضل أن يكون كل كمين مزودًا بكمامات، وحال ضبط مواطن لم يرتد كمامة، يمنحه الضابط واحدة «مجانية» مصحوبة بابتسامة، وجملة: «مصر خايفة عليك».. فلو فعلنا ذلك، أعتقد أن الأمور سوف تتغير كثيرًا للأفضل. 
 
فما أخشاه أن يقلل قرار غرامة عدم ارتداء الكمامة، من هيبة الدولة؛ خاصة مع استحالة تطبيقه، وبالتالي يمسي كقرار غرامة الـ500 لمن يتخلف عن الإدلاء بصوته في الاستحقاقات الانتخابية.. وقرر غرامة عدم ارتداء حزام الأمان خلال قيادة السيارة.. وغرامة «رش الشوارع وغسيل السيارات بمياه الشرب».. وغيرها من القرارات التي لم تنفذ، أو يستحيل تنفيذها، دون إقناع المواطن بأهميتها، وتوعيته وإدراكه بمخاطر إهماله لها، والفلسفة من تشريعها.
 
(5)
 
العقوبة- وفقًا لمعاجم اللغة العربية- هي مصدر الفعل «عاقب»، وتعني «جزاءُ فعل السُّوء، ما يلحق الإنسان من المحنة بعد الذَّنب في الدُّنيا». بينما العقوبة- وفقًا للقانون- هي جزاءٌ وعلاجٌ يفرض- باسم المجتمع- على شخص مسؤول عن جريمة ارتكبها بناءً على حكم قضائي مبرم صادر عن محكمة مختصة. وهي جزاءٌ ينطوي على الإيلام أو الحرمان من حق الحياة، أو الحرمان من الحرية، أو الحرمان من مباشرة بعض الحقوق، أو الحرمان من المال.
 
لكن العقوبة- وإن اختلفت مسمياتها- ليست هدفًا وغاية في ذاتها، بل يجب أن تكون أحد وسائل إصلاح حال البشر، وإنقاذهم من المهالك، وحمايتهم من المضار والمفاسد، واستنقاذهم من الضلالة والجهالة.. والشريعة الإسلامية أدركت ذلك في مهدها.. فعلى الرغم من أنها جرَّمَت أمورًا بعينها، ووضعت حدودًا لمن يخالف ذلك، إلا أنه- في الوقت ذاته- تفننت في التماس الأعذار للمخالف، عن طريق «درء الحدود بالشبهات».. و«الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة».. فضلًا عن عدم إقامة الحد إلا بعد استيفاء دوافعه، وبواعثه، ومبرارته، وأسبابه.. وهذا ما فعله الخليفة «الاستثنائي»، عمر بن الخطاب، الذي عطَّل إقامة حد السرقة في «عام الرمادة»؛ بسبب المجاعة التي ضربت البلاد وقتذاك.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق