المجلس "الأدنى" للثقافة!

السبت، 13 يونيو 2020 01:37 م
المجلس "الأدنى" للثقافة!
مختار محمود يكتب :

فى مصر ما يربو عن ثلاثين "مجلسًا أعلى"، لا أحد يعلم عنها شيئًا مذكورًا. معظمها لا يجتمع فى اجتماعات دورية معلومة، ولا يحقق الغرض الذى تشكل من أجله.
 
ويتصارع كثيرون بالتربيط والطرق غير المشروعة للفوز بعضويتها المؤبدة؛ ففيها وجاهة اجتماعية كبيرة، واستفادة مالية عظيمة. ويأتى المجلس الأعلى للثقافة فى صدارة هذه المجالس معدومة الأثر ومنزوعة الفائدة، بل إن إثم المجلس المذكور يفوق فوائده، إن كانت له فوائد تذكر.
 
ولمن لا يعلم.. فإن المجلس الأعلى للثقافة أنشئ بقرار جمهوري يحمل رقم 150 لسنة 1980، بديلًا للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، باعتباره هيئة عامة بحيث يتبع وزير  الثقافة.
 
ولا أحد يسمع خيرًا عن هذا المجلس، ولا يُثار اسمه إلا تزامنًا مع الإعلان عن جوائز الدولة، وفى كل عام لا يخلو الأمر من جدل وريبة، حدث هذا عندما ساند "سيد القمنى" للحصول على جائزة الدولة التقديرية، قبل أن يتم استردادها بحكم قضائى، وعندما دعم " حلمى سالم" صاحب قصيدة "شرفة ليلى مراد" المسيئة للذات الإلهية للحصول على الجائزة نفسها، وعندما آزر "جابر عصفور" العام الماضى للحصول على جائزة النيل، وخلال المرات الثلاث كان المجلس يوصم دائمًا وأبدًا من من المراقبين، وبعضهم محسوبون على المشهد الثقافى، بأنه قلعة الإلحاد والعلمانية المتطرفة  فى مصر.
 
قد ينطوى الاتهام على جانب من المبالغة، لا سيما من جانب غير المستفيدين من سيف المعز وذهبه، لكن المجلس يبقى فى كل الأحوال موصومًا.
 
ومؤخرًا.. أصدر رئيس الحكومة الدكتور مصطفى مدبولى قراره بتجديد عضوية عدد من أعضائه لمدة عامين جديدين.
 
وقد لوحظ فى الأسماء أن كثيرًا من أصحابها، إن لم يكن معظمهم، ممن تجاوز الثمانين عامًا، ويلامس التسعين، وقليلٌ منهم يعانق عامه المائة، أمد الله وبارك فى عمر الجميع، وهو ما يجعل منه مجلسًا عديم الأثر والجدوى، ويبدد ميزانيته الكبيرة فى الهواء، فلا الدكتور مراد وهبة " 94 عامًا"، ولا  ليلى تكلا "86 عامًا"، ولا أحمد عبد المعطى حجازى "85 عامًا"، ولا مفيد فوزى "80 عامًا"، ولا جابر عصفور "77 عامًا"، ولا يوسف القعيد "76 عامًا"، ولا الشاب الجميل "مصطفى الفقى "77 عامًا" قادرين على العطاء المتجدد والمتدفق وهم فى هذه المرحلة العمرية التى لا تتطلب إجهادًا لهم وتحميلًا لما يفوق طاقتهم، بل يجب تكريمهم بصور وطرق أخرى.
 
بعد ثورات الربيع العربى.. تغيرت العقلية التى كانت تأنس بالمسنين وتستعين بهم كثيرًا، وصار اللجوء إلى العناصر الشابة القادرة على العطاء هو الأصل والقاعدة، ولكن ما الذى عساه أن يتغير فى المشهد الثقافى، فى الوقت الذى لا تتغير فيه الوجوه التى عاصرت كل الأنظمة وناصرتها وسبحت بحمدها ولم تعارضها يومًا ما.
 
وللأسف فإن المجلس الأعلى للثقافة.. ليس بدعًا من جهات حكومية ورسمية مشابهة، تم تحويلها دورًا للمسنين، بدلًا من أن تكون روافد داعمة ومعطاءة، كلٌّ فى تخصصه، لتخدم وطنًا يعانى أوجاعًا فى الصحة والتعليم والبحث العلمى والثقافة، حتى أصبح الوزير وأستاذ الجامعة فيه لا يجيد القراءة والكتابة!
 
ورغم الصرخات المتتالية  من أن المشهد الثقافى فى مصر، يمر بأسوأ حالاته، وأن الثقافة لم تعد رافدًا من روافد القوى الناعمة، كما كانت فى فترات سابقة، إلا إن سياسة اختيار القائمين على المشهد والمؤثرين فى اتخاذ القرار وصناعته لا تزال جامدة صلبة بائسة لا تتغير!
 
فمن بين الأسماء المذكورة آنفاً: أحمد عبد المعطى حجازى الذى كان رئيسًا لتحرير المجلة الحكومية التى نشرت قصيدة "شرفة ليلى مراد" المسيئة للذات الإلهية، ومن بينها: أيضًا جابر عصفور الذى يُسخِّر كل مناصبه لاقتناص الجوائز المحلية والعربية لنفسه دون أن يكون جديرًا لها، واللغط الذى اكتنف جائزته الأخيرة أكبر دليل.
 
وما ينطبق على "حجازى" و "عصفور"، يمتد إلى محمد سلماوى، وما أدراك ما محمد سلماوى وإلى يوسف القعيد.. أما "مصطفى الفقى" فقد عقمت النساء على أن تلد مثله!
 
فى العام 1938، وعندما كان عمره 49 عامًا، أصدر الدكتور طه حسين كتابه الأشهر " مستقبل الثقافة فى مصر" الذى لم يفقد أثره وأهميته بتقادم الأعوام والسنين.
 
وكانت مقدمة الكتاب  قد حملت عبارة دالة وكاشفة للحال التى وصلنا إليها، حيث كتب عميد الأدب العربى: "لولا أن مصر قصَّرت طائعة أو كارهة فى ذات الثقافة والعلم لما فقدت حريتها، ولما أضاعت استقلالها، ولما احتاجت إلى هذا الجهاد العنيف الشريف لتسترد الحرية وتستعيد الاستقلال"، قاصدًا أن مستقبل مصر على جميع الأصعدة متوقف على مستقبل الثقافة والتعليم والفن فيها، وهو الثالوث الذى يتم التفريط والتقصير فيه بوتيرة متسارعة ومنتظمة.
 
ولا تزال  أفكار هذا الكتاب ورؤاه حاضرة بقوة على جميع موائد الاتجاهات الفكرية، ولا يزال وجوده غالبًا على الندوات والنقاشات الثقافية، وتتناول مضمونه وقضاياه مئات المقالات الصحفية، باعتباره كتابا يقدم رؤية استراتيجية واضحة ومتكاملة المعالم لاصلاح وتطوير التعليم فى مصر، حيث لم يكتف صاحبه بالإشارة إلى المشكلات التى كانت تواجهها مصر فى زمنه ومازالت تواجهنا فى زمننا هذا، ويعتبرها كثيرون مستعصية على الحل، بل قدم لتلك المشكلات مقترحات وحلولًا عملية تؤكد سنة بعد أخرى أن مشروعه لا يزال مشروعا معاصرا، صالحًا للقراءة والتطبيق.
 
فهل قدم واحد ممن تضمن قرار الدكتور مصطفى مدبولى اسمه فى تجديد عضويته بالمجلس الأعلى للثقافة، أو من تم تعيينهم بالمجاملة والواسطة، كتابًا واحدًا يرصد من خلاله مشاكل الواقع ويستشرف المستقبل، ويطرح حلولًا ومسارات بديلة؟ الإجابة: لا. وهل لو كان مثل طه حسين بين ظهرانينا، سوف يشمله قرار حكومى بتسكينه فى أىٍّ من المجالس العُليا المُجمدة؟ الإجابة: لا. لماذا؟ الإجابة: لأنه ليس من أهل السمع والطاعة! ومن أجل ذلك.. يبقى المجلس المذكور بلا قيمة تُذكر، ولو كره الكارهون..

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق