أيمن عبدالتواب يكتب:

ما وراء صراع «البكيني» و«البوركيني»!

الجمعة، 24 يوليو 2020 01:04 م
ما وراء صراع «البكيني» و«البوركيني»!

حين كنتُ طفلًا، كنتُ أستحم- أنا ورفاقي- في الترعة، ونحن «بلبوص»، أي عرايا تمامًا، لا يستر جسدنا شيئًا، حتى «ورقة التوت»، لم نكن نعرفها.. فقد كان الفقر قاسمًا مشتركًا بيننا.. و«المستور» فينا لم يكن يمتلك المال لشراء «مايوه»، فكان ينزل الترعة، أو «المقطع» بـ«اللباس البفتة»، أو «الدبلان»!
 
تلك مقدمة لا أراها ضرورية للتطرق إلى الصراع بين المايوه البكيني، سواء القطعتين أو القطعة الواحدة، وبين «البوركيني»، المايوه الشرعي، كما يُطلقون عليه، ويروجون له.. إذ كنا وقتئذ- نحن الأطفال، والشباب العرايا- لم نكن نعرف التعصب، ولم تكن أمراض «الطبقية» تسربت إلينا، بعكس ما اعترى وأصاب - الآن- أبناء «البكيني»، و«البوركيني»، الذين يحتقر كل منهما الآخر! 
 
نعم.. الصراع بين أهل «البكيني» و«البوركيني» أعمق من المناوشات، والمشادات، والمشاجرات التي نشبت بين الطرفين، وطفت على سطح الحياة الأيام القليلة الماضية، وانتقلت تفاصيلها من الشواطئ، وحمامات السباحة، والقرى السياحية إلى وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي.. كل طرف يُحمل الآخر المسؤولية، ويتهمه بأشياء يعتبرها كثير من المتابعين «تفاهة» وعدم إحساس بالأخطار المحدقة بالوطن شرقًا، وغربًا، وجنوبًا. 
 
قد تكون هذه الاتهامات صحيحة لكن ذلك لا يعطينا الحق في تجاهل تنامي الصراع بين «البكيني» و«البوركيني»، وزيادة حدته.. فالمشكلة لا تكمن في نوع «المايوه» ولا خامته.. المشكلة أعمق وأعقد من قشور الخلاف الطافية على سطح الماء.. المشكلة أن فكرة التعايش مع الآخر، والقبول به، أصبحت مجرد شعارات تعلق على الحوائط، ونتشدق بها في وسائل الإعلام لنداري بها التشويه الذي أصاب نفوسنا، وأرواحنا.. بينما في الواقع لا نتوانى عن إقصاء الآخر، والتنمر عليه، والسخرية منه، والحط من شأنه!
 
صراع «البكيني» و«البوركيني» كشف عن أمراض اجتماعية خطيرة، كنا نظنها اختفت، خاصة ونحن على أعتاب نهاية ربع قرن من القرن الواحد والعشرين..  فأصحاب المايوه «الفتلة»، أو الـ«ون بيس» يحتقرون أهل البوركيني، الذي يعتبره كثيرون «مايوهًا شرعيًا»، لكنه ليس من الشرع في شيء.. والطرف الأول- الأكثر عُريًا- يرى- في قرارة نفسه- أن الطرف الثاني ما هم إلا مجموعة من «الفلاحين» و«المتخلفين»، و«الرجعيين»، الذين يجب «هجرهم»، وتهجيرهم، ومقاطعتهم، والانعزال عنهم..!
 
لهذا كله وأكثر نجد كثيرًا من أصحاب المايوهات «البكيني»، ومَنْ هم على ثقافتهم، ونهجهم، يفضلون الحياة «المنغلقة» على ذواتهم؛ فيعيشون في «كمبوندات»- مجتمعات سكنية مغلقة- خاصة بهم، ويحاولون إيجاد مدارس وجامعات ووظائف خاصة بهم وبأبنائهم.. وارتياد مطاعم، وأندية خاصة بهم، وشواطئ لا يدخلها غيرهم، وإن كان مستوى معيشتهم «المادي» أعلى منهم.. لذا نسمع عن «كشف الهيئة»، و«الفحص الجنائي والفني»، و«الانترفيوهات»- المقابلات- «العجيبة» التي تُجرى لمن يريد شراء وتملك وحدة سكنية في الكمبوند الخاص بـ«أهل السفور، والفسق والفجور» كما يسمهم بعض الرافضين لثقافتهم، ونمطهم المعيشي المحاكي للحياة الغربية، المتنافرة مع مجتمعنا الشرقي! 
 
ويومًا بعد يوم، تزداد الفجوة بين «أهل البكيني» والـ«أوبن مايند»، وبين غيرهم من أصحاب المايوهات الأخرى.. فتراهم ينفقون عشرات الملايين من أجل شراء فيلا في كمبوندات نائية.. ويدفعون أموالًا طائلة في شقة أو شاليه لا تتجاوز مساحته 80 مترًا، لمجرد أنه سيحقق لهم الخصوصية والانعزال المطلوب.. وتراهم يضربون حول أنفسهم أسْوِجَةً»- جمع سياج- عازلة، وأسلاكًا شائكة، وأسوارًا عالية، محاطة بكتائب من الأمن الخاص، والبودي جاردات؛ ليعيشوا خلفها «على راحتهم»، بعيدًا عن أعين المتطفلين، والناس الـ«لوكال»، أو الـ«سكند كلاس»، والـ«نو كلاس»، الذين ينزلون «البوول» بالبوركيني، أو بمايوهات «محلية» الصنع! 
 
بعض «أبناء البكيني» ككثير من اللصوص، وأثرياء الحرب، والفاسدين الذين يهربون من كل مَنْ يعرفون حقيقتهم.. وهم كبعض الراقصات، وممتهنات الدعارة، اللائي يعشن بمعزل عن أناس ينظرون إليهن نظرة احتقار، و«يعايرون» أولادهن بأمهن الراقصة، أو القوادة.. وهم أيضًا كـ«محدثي النعمة» الذين يريدون الهروب من ماضيهم، ويودون أن يمسحون تاريخهم، وأصلهم، ويصنعون لأنفسهم تاريخًا مزيفًا يليق بهم كأبناء المنتجعات والكمبوندات! 
 
هؤلاء «البكينيون»- أصحاب المايوهات البكيني- يشعرون- بمرور الوقت- أنهم خُلِقوا من طينة أرقى، وأنظف من تلك الطينة التي خُلِقَ منها «البوركينيون»- أهل البوركيني! وفي المقابل، فإن «البوركينيين»- الذين يظنون أنهم وحدهم هم «الملتزمون»، وأنهم يرتدون مايوهات مطابقة للشريعة الإسلامية- يحتقرون «البكينيين»، ويرون أن «أبناء البكيني» ما هم إلا مجموعة من السافرات، العاهرات، الفسقة، الفجرة، الفسدة.. لا يستحقون أي نوع من التعاطف معهم.. ولو تعرضت واحدة من «البكينيات» للاغتصاب، أو حتى التحرش، فهي «المُلامة»، والمسؤولة، ولا شيء على الجاني! 
 
اختصارًا.. العيب في العقول، وليس في المايوهات! فالعقد النفسية، و«الكلاكيع»، والأمراض المجتمعية الموجودة عند «البكينيين»، تكاد تكون هي نفسها الموجودة عند «البوركينيين».. كلاهما متعصب لطائفته، وطبقته.. كلاهما عنصري بامتياز.. كلاهما متشدد، متطرف.. كلاهما يتعالى على الآخر، ويمن عليه بما عنده.. كل منهما يرى نفسه أنه الأفضل من الآخر، وأنه الأكثر احترامًا، والأكثر التزامًا.. بينما الحقيقة الواضحة أن كليهما يرفض الآخر.. يرفض ثقافته.. يرفض تصرفاته وأفعاله.. يرفض نمط معيشته.. يرفض سلوكه.. يرفض التعايش معه والقبول به.. كل منهما يحذر أبناءه من الاحتكاك بأبناء الآخر حتى لا تفسد تربيتهم، وتنحدر أخلاقهم! 
 
وللأسف.. هذان النموذجان يوضحان حالة «الاستقطاب» والاستقطاب المضاد، التي يحاول بعضنا ان ينتهجها للتعاطف معه، والانضمام إلى صفه.. هذا الاستقطاب ليس مقتصرًا على «المايوهات» فقط، ولا على الشواطئ فقط، بل أصبحنا نراه في كل مكان، وفي أي مجال.. استقطاب رياضي.. استقطاب فني.. استقطاب ديني.. كل طرف يسفه الآخر، ويتنمر عليه، ويسخر منه، ويشوه صورته، ولو بالأكاذيب.. ثم بعد ذلك نصوِّت، ونولول، ونلطم، ونشكو من التعصب، والتطرف، ونتعجب من عدم قبول الآخر!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق