"حرامى"بختم النسر

الأحد، 17 يناير 2016 07:55 م
"حرامى"بختم النسر
عبد الحليم قنديل


فى واقعة يتيمة فريدة ، انتصر القضاء المصرى أخيرا لحق الشعب المصرى ، وقررت محكمة النقض الإدانة النهائية الباتة لمبارك ونجليه ـ جمال وعلاء ـ فى قضية سرقات القصور الرئاسية ، وتغريمهم 147 مليون جنيه ، فوق السجن لثلاث سنوات ، مع ما يتريب على الحكم فى جريمة ماسة بالشرف والأمانة ، من إنهاء اعتبارهم المدنى ، وحرمانهم جميعا من العمل السياسى ، وترك المخلوع لمصير الموت بلا كرامة ، وتجريده من أوسمته ونياشينه العسكرية ، وعدم إقامة جنازة عسكرية لمبارك ـ الجنرال ـ حين يحل موعد الأجل المحتوم .
ومقتضى الحكم البات ببساطة ، وهو عنوان الحقيقة ، أن مبارك أصبح (حرامى برخصة) ، ولصا بختم النسر ، وباسم الشعب الذى تصدر باسمه ـ وبختم شعار الجمهورية ـ أحكام القضاء ، والتى تخلفت من قبل عن الإدانة الواجبة للمخلوع ، بل وحكمت محكمة جنايات ببراءته فى القضية المعروفة إعلاميا باسم "محاكمة القرن" ، والمعروضة لاتزال على محكمة النقض ، وتضمنت اتهامه بقتل متظاهرى الثورة وتصدير الغاز المصرى لكيان الاغتصاب الإسرائيلى ، واستند قاضى الجنايات ـ محمود الرشيدى ـ فى التبرئة إلى أخطاء صورية فى قرار الاتهام ، بدت متعمدة من جهات التحقيق ، وبهدف فتح الثغرات لبراءات بالجملة ، حظى بها مبارك مع نجليه والوزراء وكبار جنرالات الداخلية ، وجعلتهم يخرجون ألسنتهم للشعب ، ويهزأون بالثورة وبأبطالها وأهدافها وشهدائها ، وفى حملة عاتية للتكفير بالثورة ، واعتبارها مجرد مؤامرة إخوانية ، وشاركت بالدور المؤثر فى حملة مسح المخ ، فضائيات وإذاعات وصحف ، يملكها ويديرها كبار اللصوص من جماعة "رأسمالية المحاسيب" ، وبدعم مستتر وظاهر من جهاز الدولة نفسه ، ومن قطاعات مسيطرة فى الأجهزة الأمنية ، وبهدف الإجهاز على معنى ومبنى الثورة ، وغسل سمعة المخلوع وجماعته ، وتبييض الفساد الذى رعاه وصنعه ، وهو ما يبدو متصلا حتى بعد حكم محكمة النقض بالإدانة ، فى برلمان الفلول الذى بدأ جلسات العبث والكوميديا السوداء ، وفى لجنة عظيمة الشذوذ ، شكلها الرئيس السيسى للتحقيق فى "تقرير الفساد" الذى أعده هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات ، وقد اجتمعت اللجنة على وجه العجلة ، وقيل أن عملها قد يستغرق شهرا لفحص الوقائع الواردة فى تقرير جنينة ، فإذا بها تنهى المهمة فى أقل من عشرة أيام ، وتصدر بيانا سابق التجهيز غالبا ، يصف الفساد فى مصر بعبارة "ما يسمى بالفساد" (!)، وكأن اللجنة الموقرة تضيق بذكر كلمة "الفساد" فى اللغة نفسها ، وتطالب بذبح جنينة بجرم فضح الفساد ، وتعطى القط مفتاح الكرار ، وتسلم السكين لما يسمى "مجلس النواب" ، وهو مجرد سيرك فلولى ، للتعجيل بالانتقام من هشام جنينة ، وجعل "الرأس الطائر" عبرة لكل شريف يهاجم الفساد ، وجعل شعار المرحلة "إمسك شريف" بدلا من "إمسك حرامى" ، وتكريم اللصوص ، ومنحهم أوسمة الشرف ، وتدبيج قصائد الغرام فى الفساد الذى صار "قمة النظافة واللطافة" ، وصرف الأنظار ، والتشويش على حكم النقض البات بإدانة مبارك "أبو الفساد" ، والذى لا يزال نظامه يحكم ويعظ ، ويحاصر الرئيس السيسى ، ويهيئ له قراراته ، ويواصل عملية "تفليله" ، وإجهاض دواعى الأمل الشعبى فى رئاسته القلقة ، التى يقتصر إنجازها حتى الآن على قاعدة عمل الجيش ، وبدون شفع الإنجاز بانحياز ضرورى لأغلبية المصريين الساحقة من الفقراء والطبقات الوسطى ، وبغير خوض معركة ذات مغزى ضد تحالف مليارديرات النهب وجهاز الدولة الفاسد .
إنها ـ مجددا ـ صورة "اللانظام" الذى يحكم مصر الآن ، والذى تبدو خطواته مضطربة تائهة ، ويتحول جهده الأساسى إلى حالة "القربة المقطوعة" ، وبما ينشر الشعور باللاجدوى وعدم اليقين عند القواعد الشعبية الواسعة ، فاختياراته الوطنية الصحيحة غير المكتملة ، تقابلها وتصادمها اختياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية البائسة فى الداخل بالذات ، وتردده فى خوض معركة واحدة ناجزة ضد الفساد المسيطر ، ففى الوقت الذى تجرى فيه إدانة مبارك قضائيا للمرة الأولى بعد الثورة ، ويعاد رجل مبارك الأول ـ حبيب العادلى ـ إلى قفص الاتهام مجددا ، وفى قضية فساد بمليارات الجنيهات ، وتصدر أحكام بالسجن ـ لاتنفذ ـ ضد رئيس وزراء مبارك أحمد نظيف ، ووزير إسكانه إبراهيم سليمان ، فى الوقت الذى تتوالى فيه هذه الحوادث ، وتثير أملا خافتا بإمكانية التوصل إلى عدالة ما ، تصدمك التحركات الفعلية المعاكسة ، ويجرى ـ بالأمر الرئاسى ـ تمكين جماعة المخلوع مبارك من الحكومة ووزاراتها وإداراتها ، مع الطواقم الاستشارية للرئيس نفسه ، ويجرى تمكين الفلول ـ بالأوامر والرعاية الأمنية ـ من البرلمان ، ويجرى تمكين فلولى بارز ـ كأحمد الزند ـ من القرار الفاصل فى قضايا الكسب غير المشروع ، فجهاز الكسب غير المشروع تابع لوزارة العدل ووزيرها الزند ، والذى كان قرار السيسى الصادم بتعيينه وزيرا بمثابة حكم إعدام للعدالة ، وإشارة للتخلص من الشرفاء فى أى موقع مؤثر ، وعلى طريقة ما يجرى لهشام جنينة ، الذى صار عنوانا للطهارة والإنصاف فى الضمير الشعبى العام ، ومع ذبح جنينة ، يجرى التصالح مع كبار الفاسدين فى الكواليس والمساومات إياها ، وعبر تعديلات فاجرة فى قانون الكسب غير المشروع ، تتيح التصالح مع الناهبين ، ووقف المحاكمات وإلغاء آثارها ، ومقابل رد المليارات التى استولوا عليها ، والتى جرى تصدير أرقام مهولة عنها لخداع الرأى العام ، لكسب تعاطفه مع التصالح مقابل رد الأموال ، وهو ما لم يحدث شئ منه على مدى شهور تلاحقت بعد التعديل المشبوه ، وغير الدستورى بالمرة ، فلم يعد للدولة مليم واحد مما نهب ، فوق أن أحدا من هؤلاء ، لايسجن إذا صدر حكم قضائى ضده ، وكما جرى فى حالة نظيف الذى تعاد محاكمته دون أن يدفع مليما ، وفى حالة سليمان الهارب داخل مصر لا خارجها ، والذى تعمى عنه قصدا عيون الأجهزة الأمنية ، ولم يرد مليما من الثلاثة مليارات جنيه المحكوم عليه بردها ، فوق مئات المليارات التى لم يسدد منها لصوص الأراضى مليما ، وبالطبع ، فلم يسدد مبارك كبير اللصوص مليما إلى الآن من مبلغ 147 مليون جنيه محكوم بها من محكمة النقض .
وحالة "التواطؤ مع اللصوص" متصلة للأسف على مدى خمس سنوات خلت ، ومنذ ـ وبرغم ـ قيام الثورة فى 25 يناير 2011 ، وشارك فى جرم التواطؤ حكم المجلس العسكرى ، ومن بعده حكم الإخوان ، وصولا إلى الحكم الراهن ، فبرقيات هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية وقت الثورة المصرية ، تكشف أن الفريق سامى عنان – نائب رئيس المجلس العسكرى ـ وعد مبارك بالحماية مقابل تخليه عن الرئاسة ، وعرض أن يقيم مع مبارك فى " شرم الشيخ " تأكيدا للحماية المتفق عليها ، وجرت اتصالات مع عاهل دولة بترولية كبرى لضمان حماية أموال مبارك ، وصدق مبارك الوعود ، واحتمى بها لشهرين فى مأمنه بشرم الشيخ ، وإلى أن انقلبت المائدة على رءوس الحاكمين وقتها ، وطالبت مليونيات ميدان التحرير بمحاكمة فورية لمبارك وعائلته ، فكان أن خضع المجلس العسكرى ، وقرر تقديم مبارك للمحاكمة بعد إتلاف وثائق الإدانة ، وبترتيب قرارات اتهام مثقوبة ، لا تؤدى سوى إلى تبرئة المخلوع فى نهاية القصة ، وبدعوى إجراء محاكمات بالقانون العادى ، وهى الدعوى التى أيدها الإخوان وقت برلمانهم ، ثم وقت حكم رئيسهم ، ورفضوا مطالب الشارع الثورى بإجراء محاكمة مبارك طبقا لقانون " محاكمة رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى " ، وهو ما أدى إلى نهاية فاجعة لقصة المحاكمات ، فقد جرى إخلاء سبيل أعوان مبارك الكبار من عينة فتحى سرور وزكريا عزمى زمن حكم الإخوان ، ثم انتهت محاكمة مبارك إلى التبرئة بعدها ، وكان ذلك مما توقعناه من أول لحظات التحقيق مع مبارك ، فالمحاكمات بالقانون العادى بعد ثورة خدعة مكشوفة ، وخيانة أكيدة لمنطق الثورة نفسها ، فالثورة ـ أى ثورة ـ حادث استثناء لاعمل من أعمال العادة ، والثورة ـ طبقا لقانون العادة ـ جريمة قلب نظام حكم ، وإجراءات المحاكمات العادية إياها ، تنتهى بطبائع الأمور إلى إدانة الثورة وتبرئة الظالمين والفاسدين ، وكان رأينا أن تجرى المحاكمات بطريقة تليق بمقام الثورة ، وأن يقضى فيها القضاة الطبيعيون ، ولكن بقانون خاص ، يجرم ما لايجرمه القانون العادى ، وهو ما التفت إليه القاضى الرشيدى فى جلسة النطق بتبرئة مبارك ، فقد قالها القضى بوضوح ، قال أنه لم يجد قانونا يحاكم به مبارك عن جرائم وآثام وخطايا ثلاثين سنة حكم مصر فيها ، لم يجد قانونا يحاكم به عصابة الفساد والنهب والتوريث والإفقار والتعذيب وانحطاط الاقتصاد وتردى الخدمات العامة ، وكان ذلك سبيلا لإفلات مبارك وجماعته من حكم العدالة ، لولا أن الأقدار ساقت إلينا حكم محكمة النقض الأخير ، وفى قضية القصور الرئاسية ، التى هى مجرد عينة صغيرة وقطرة من مستنقع فساد المخلوع وأهله وجماعته ، انتهى بسببها إلى الوصم الأبدى باللصوصية الدامغة ، وأهيل التراب على تاريخه العسكرى قبل تاريخه الرئاسى الأسود ، فقد روج البعض لدور مبارك فى حرب أكتوبر 1973 ، ولما قالوا أنه "الضربة الجوية" للاحتلال الإسرائيلى ، وتناسوا ـ على طريقة لا تقربوا الصلاة ـ ما جرى من مبارك فيما بعد ، حين صار رئيسا بالمصادفة التعسة لمصر ، فقد أوقع مبارك الرئيس بمصر ما يشبه "الضربة النووية" لا الجوية ، وكان عنوانا لانحطاط سرق مصر من شعبها وتاريخها ، وجعلها حطاما لم يكنس ركامه بعد .
[email protected]

 

تعليقات (3)
الحكم على مبارك
بواسطة: محمد ابوزيد ابوالنور حسن
بتاريخ: الأحد، 17 يناير 2016 08:48 م

الحكم لاعلاقة له بانتصار القضاء لحق الشعب ن والامر لايدو الا رغبة لسد الباب امام طموح جمال مبارك وداعموه

تحياتى للثائر الحق قنديل
بواسطة: محمد نصر عب الرازق
بتاريخ: الثلاثاء، 19 يناير 2016 06:12 م

تحياتى للاستاذ الجليل عبدالحليم قنديل على هذا المقال الرئع والذى يعبر بكل امانه عن لوضع الرهانى ..مبروك على اول حكم نهائى ضدد زعيم العصابه مبارك .لاجل ن ينصلح حال مصر الرئيس يحتاج ان يغير هذه العقول التى حوله حتى نشعر بتغير

ضد الفساد
بواسطة: لطفى عبد الله
بتاريخ: الخميس، 21 يناير 2016 10:00 ص

سوف تكون معركة شرسه بقوة ثورة

اضف تعليق


الأكثر قراءة