قناة الجزيرة القطرية.. نافذة غسيل سمعة قطر وترسيخ العنف

الأربعاء، 02 سبتمبر 2020 01:00 م
قناة الجزيرة القطرية.. نافذة غسيل سمعة قطر وترسيخ العنف
قناة الجزيرة وتميم بن حمد

5 أشهر فقط استغرقها إعداد الإمارة الخليجية الصغيرة لقناتها التليفزيونية الضخمة. الدويلة التى لم تُسجل أى حضور إعلامى سابق، ولم تحتفظ سجلات مواطنيها باسم بارز فى الصنعة الإعلامية، وجدت نفسها فى ورطة إقليمية طارئة منتصف العام 1996، تُغلّفها تطُّلعات لم تراودها من قبل ولا تمتلك مؤهلاتها، فاستعاضت عن الجهد المطلوب لصناعة رواية تُوافق الواقع وتنسجم معه، بأن انتهجت أيسر السُبل لتغذية الرواية التى تطمع فى رواجها!

 
يبدو المشهد الراهن كما لو أن شبكة الجزيرة القطرية تملك دولة صغيرة فى خدمتها. بدأ الأمر وقتما انقلب حمد بن خليفة آل ثانى على والده أواخر يونيو 1996، ولم يكن بوسعه أن يواجه السرديات العربية عن القصّة من موقع ضآلته. عانى "حمد" طويلاً من الرفض العربى، ومن سوء الذكر ورواج الحكايات عن العقوق وعار "آل ثانى"، ليُقرّر سريعا أن يتجاوز محدودية الجغرافيا، وضآلة العدد، بامتلاك "مُكبّر صوت" يضمن له رواج روايته بين الروايات، فكان أن بادر بإبرام صفقة مع هيئة الإذاعة البريطانية "BBC" التى تعطّل مشروعها لإطلاق منصّة إخبارية عربية بالتعاون مع المملكة العربية السعودية، ثمّ تحمّل الكُلفة المالية الباهظة، وما يترتب على الجدول الزمنى المضغوط من أعباء مضاعفة، لتنطلق قناة الجزيرة باستوديوهات وتجهيزات وفرق تحرير مُستوردة بالكامل، مطلع نوفمبر 1996!
 
الهروب من الضآلة والعقوق
كان رهان حمد بن خليفة على "الجزيرة" أن تكون نافذة لغسل السُمعة، ومحاولة لتعويض الضآلة السياسية للإمارة الغنية بالنفط والغاز، لكن تلك الغاية كانت تتطلب امتلاك مخالب حقيقية تتجاوز طبيعة الدور الإعلامى، ونسج روابط وقنوات اتصال تُعزز فاعلية المنصة، وتُضفى عليها مزيدا من القيمة للأطراف الفاعلة إقليميا، على أن تنعكس تلك الروابط ومزاياها بالضرورة على نظام الحكم نفسه. وهكذا تدرّجت القناة فى التوسع، ونوّعت أذرعها لتغطى مجالات أكثر طلبا من جانب الحلفاء، فكان الرباط مع تنظيم القاعدة وحركة طالبان فى أفغانستان.
 
وصلت "الجزيرة" إلى معاقل التنظيمين، وحصلت على محتوى حصرى من داخل كهوف المسلحين، وامتدّ الأمر إلى لعب دور فى فتح قنوات اتصال بين تلك التيارات وبعض الدول والأجهزة الأمنية، وتتوسع الشكوك إلى حدّ المساهمة فى الإيقاع ببعض العناصر المطلوبة، مثل الواقعة التى ما تزال محل جدل حتى الآن بشأن الكشف عن مخبأ رمزى بن الشيبة وخالد شيخ محمد، المتورطين فى أحداث 11 سبتمبر، عقب مقابلة حصرية مع مقدم برامج الجزيرة وقتها، يسرى فودة.
 
لاحقا تطورت العلاقة من التغطية الإعلامية إلى الدعم اللوجستى. إذ تُثار شكوك عن تمويل الإمارة لطالبان وأفرع القاعدة فى المنطقة، لا سيما تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق الذى كان نواة تنظيم داعش، وصولا إلى افتتاح مكاتب ومقرات تمثيل لبعض تلك المجموعات، مثل مكتب طالبان بالدوحة، واحتضان عناصر من التنظيمات الأصولية المسلحة، ومن جماعة الإخوان فى مصر وسوريا والأردن وفلسطين وغيرها، وتمويل منصّات إعلامية تابعة لتلك التيارات لتكون شريكا غير مُعلن للرؤية القطرية، والأهم أن الشبكة نشطت فى تسويق الرؤية السياسية القطرية دون اهتمام بالشأن القطرى نفسه كما يتعين على منصة إعلامية، وعملت على تسويق توجهات سياسية فوق وطنية بالمنطقة، عبر انحياز واضح للتوجهات التركية والإيرانية، وتبرير التحالف بين بعض الأصوليين والبلدين، ومحاولة إضفاء وجه سياسى ذى مشروعية على أعمال العنف ذات الأرضية الدينية، والمبادرة بالهجوم على المراكز الإقليمية المناوئة، سعيا إلى وضعها فى حيز رد الفعل، وتذويب خطابات الضآلة والعقوق وعار القبيلة التى حاصرت الإمارة لسنوات طويلة منذ انقلاب حمد على أبيه!
 
خرق فى خيمة آل ثانى
لم تكن توجهات الجزيرة واضحة تماما مع انطلاقتها قبل قرابة ربع القرن. وقتها كانت رؤى BBC أكثر حضورا فى أروقة القناة، ولم تكن الإمارة تملك معرفة بالإعلام أو قدرة على إحكام قبضتها حول عُنق المنصة الوليدة، لكن مع نجاح نظام الحكم فى استقطاب فرق العمل المستوردة، ونمو تطلعاته السياسية، واتساع حيز اللعبة الإقليمية وتعقد خيوطها، تحوّل الأمر تماما لتصبح الشبكة مؤسسة ذات طابع سياسى، أكثر من كونها نافذة إعلامية. لكن الأثر الجانبى لهذا التحوّل أنها أصبحت خرقا فى خيمة آل ثانى، وتعبيرا أكثر وضوحا عن عار القبيلة، من حيث سعت أن تكون سترا له!
 
بدت رسائل قصر "الوجبة" أكثر سفورا، وانحسرت مساحيق المهنية التى طالما استترت وراءها الشبكة تماما. واتخذ الأمر منحى كاشفا مع سيطرة الطبقة السياسية الحاكمة على السياسة التحريرية، وتسرّب أغلب الجيل الأول من الكوادر المستوردة، واقتراب عزمى بشارة الوافد من ملاعب السياسة الإسرائيلية محترفة التلوّن من أمير قطر الصغير، لتدخل "الجزيرة" مرحلة مغايرة على الصعيد المهنى، تورطت خلالها بدرجة أكبر فى ألعاب العلاقات العامة وشراء الولاءات والمحتوى المدفوع وشبكات المتعاونين ومسارات تدوير المعلومات المصطنعة وغسل المصادر.
 
أسست قطر شركة فضاءات ميديا وأطلقت من خلالها نوافذ مثل تليفزيون العربى وموقع العربى الجديد، ثم أطلقت موقعا بالإنجليزية مثل "ميدل إيست آى"، واستعانت بموظفها السابق وضاح خنفر لتدشين منتدى الشرق فى إسطنبول، وموقع "هافنجتون بوست عربى" الذى تحول لاحقا إلى "عربى بوست" مع انتهاء فترة استغلال الحقوق من مؤسسة هافنجتون بوست وامتناعها عن تجديد التعاقد بسبب الممارسات المهنية المنحرفة. وإلى جانب ذلك أبرمت الإمارة تعاقدات باهظة الكُلفة مع صحف وقنوات وشركات علاقات عامة أمريكية وأوروبية، وموّلت منظمات حقوقية وجمعيات أهلية ومراكز خدمية فى عديد من الدول، ثم ضمّت كل تلك المجموعات إلى فريق تحرير الجزيرة بطرق ملتوية، لتُعمق أزمة الإمارة وتزيد خرق "آل ثانى" اتساعا!
 
تدوير وغسل المعلومات والمصادر
تخلّت الجزيرة فى المرحلة التالية لاكتمال امبراطورية الخروقات القطرية عن الآليات المهنية لإنتاج المحتوى، وبدأت العمل فى الجانب الأكبر من معالجاتها عبر وسائل وتقنيات جديدة تصنع المعلومة بدلا من الاكتفاء بنقلها، وتمُرر الرسائل وفق ماكينة اصطناعية لإكسابها قدرا ظاهريا منتحلا من المصداقية، وتستكمل تلك الدائرة من الصبغات والألوان بتدوير المعلومات والمصادر وغسلها بطريقة احترافية مُمنهجة!
 
 
ملخص الآلية القطرية فى إعادة تكييف العمل الإعلامى وتركيبه ضمن تروس الرؤية السياسية، أنها تجاوزت تلوين الرسائل والأخبار والأحداث وفق معالجات انتقائية أو اجتزائية، وانتقلت إلى مرحلة إنتاج المعالجة من نقطة الصفر. يبدأ الأمر بتحديد المعلومة أو الرسالة المراد تمريرها، ثم صناعتها فى إحدى المنصات التابعة ومن خلال قوائم الحلفاء والمتعاونين الطويلة، والعمل على تمريرها ونقلها بتواتر وكثافة من خلال بقية الأذرع الموزعة على مراكز متنوعة إقليميا وعالميا، ثم إعادة تحرير الرسالة الأساسية من خلال "الجزيرة" استنادا إلى حالة الرواج والموثوقية التى توفرت للمحتوى عبر كثافة النشر وتعدد منصات العرض!
 
أوضح الأمثلة على ذلك عندما اختلق محرر نيويورك تايمز، ديفيد كيرباتريك، تقريرا عن اتصال مسرب بين مسؤول أمنى مصرى وبعض الفنانين والإعلاميين. التسجيل مجهول المصدر الذى يغلب عليه الاصطناع من خلال اللجان الإعلامية الإخوانية حصل على رواج عبر الصحيفة الأمريكية، ثم تداولته قنوات الجماعة الإرهابية، الشرق ومكملين ووطن، وعالجته منصات قطر الفرعية، مثل العربى والعربى الجديد وعربى بوست وميدل إيست آى وغيرها، وبعدها تناولته الجزيرة كما لو كان حقيقة ثابتة دليلها تعدد جهات النشر. وتكرر الأمر بآلية شبيهة فى واقعة المقاول محمد على، وفى عديد من التقارير الحقوقية والإعلامية المدفوعة، وفى رسائل جماعة الإخوان وبياناتها، وفى الشائعات الداخلية والمعلومات المُختلقة عن الأمور الاقتصادية والاجتماعية والتنفيذية والأمنية. مسار كامل من اختلاق المعلومة، ثم تسويقها عبر الأذرع التابعة، ثم التقاطها من تلك المنصات وكأنها حقيقية ورائجة!
 
تلك الآلية الاصطناعية بالكامل تجاورت مع الممارسات السابقة، من الانتقاء والاجتزاء والتضليل والمعالجات الملونة والرسائل غير الحيادية. وبينما لا يُمكن اعتبار تلك الصيغة بما تنطوى عليه من مُخالفات مهنية أمرا طارئا على الجزيرة، إلا أن اتساع حجم الشبكة، وكثافة الضخ المالى وتضاعفه خلال السنوات التالية للربيع العربى، وتنوع المنصات والأذرع الإعلامية التابعة للإمارة أو الممولة من خلالها بشكل مُباشر، لعب دورا فى زيادة الضوضاء الإعلامية النابعة من الدوحة، وبقدر ما تسببت تلك الضوضاء فى إزالة الحدود بين السياسة والإعلام، وتعزيز حالة الفوضى واختراق المعايير والآليات المنهجية لجمع المعلومات وتوثيقها ونشرها، فإنها كشفت وجه الإمارة ونظام آل ثانى بصورة أكثر وضوحا، وألقت ضوء كثيفا على استماتة الدويلة الخليجية فاحشة الثراء فى الهروب من أحاسيس الضآلة والنبذ والعقوق، وزادت "خرق الخيمة" اتساعا وعار القبيلة وصما ورسوخا!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق