سامح الله صانع القهوة الجميل

الخميس، 03 سبتمبر 2020 06:24 م
سامح الله صانع القهوة الجميل
محمد الشرقاوي يكتب:

كان لابد من صلاة الفجر، قبل شد الرحال للقاهرة، تلك التي تملكت مني.. الندى يغرق الطرق، ويحجب الرؤية عن تلك الزراعات المتراصة، المتراقصة على نسيم طغت رائحته، لعشرات الكيلومترات.
 
لا أحبها ولا أحب صخبها، لكنها تغنيني عن كل شيء رغم البعاد، ورغم هجر الأحبة، جئت إليها صغيراً، يضل الطريق لو سار وحيداً.

كنت أظن أنها ستأكلني، فأنا جاهل بها لا أعرف أي شيء عنها، لا شوارعها ولا أزقتها ولا حواريها، فأنا صغير كبرت، وظلت هي عفية، بملامحها لا تتغير، حتى ولو تغيرت معالم جدرانها.

صلاة الفجر مع سفري تميمة، أفتتح بها يومي، حتى أن أول صلاة لي في القاهرة كانت فجراً، بمسجد الفتح رمسيس، في صيف 2009.
 
إما أن أسافر فجراً، كي لا تقع عيني في عين من أحب، كارهاً لذلك، أو حتى لا تضربني أشعة الشمس، وكلاهما صعب. في سفري دائماً ما أكتب، غير أن لي أعوام، مشتت البال، لا أفعل لذلك، ولذا تغيرت عاداتي في أسفاري، لكن هذه المرة كانت مختلفة.
 
فها أنا أعود لحواديت سفري، أتبسم طوال الطريق، متذكراً ما حدث، منذ وصولي، وكنت أسمع "وتروح بلدك يا غريب وتلاقي على البر حبيبي مستني يقولك سلامات". وقد كان أخي.
 
لم ألتق أحد، فهي أيام لم تك ثقال، بقدر ما كانت سريعة، صعبة، وهنة، جميلة، سيئة. كل هذه المشاعر المتضاربة، المهم أنها مرت، وليت ساعات منها بقت.
طريقي إلى تلك العفية، يبدأ من "شربين" مروراً بتلك القنطرة الممدوة بين شطي النيل، لتبدأ معها مرحلة عبور جديدة، تدفع بي إلى موقف سيارات عند "كشك المرور".
 
طباع الناس في شربين غريبة، لا تختلف ملامحهم عن الدمايطة الأصليين في شيء، ينتشرون في شوارع المدينة، بوجوه عبوسة، لم تمسها المياه، خشية من أن يمر وقت العمل، أم أن الاستيقاظ مبكراً قد أثقل كواهلهم، أم أن لرغد العيش المنشود رأي أخر، والأولى الستر.
وجوه سائقيها معروفة، لا يحبهم أحد "كلحة" هكذا يصفها الدمايطة، فقد يحالفك حظك بسائق "قرفته حلوة" وبأخر تلعنه الطرق والمدقات، لتكون "قرفتك انت اللي وحشة".
 
في هذه المرة اصطحبني أبي، وأخوة صغار استيقظوا فجراً، فقد أبوا أن أسافر وحيداً، لينزلوا جميعاً من السيارة، مسلمين لا مودعين، أملاً في لقاء قريب.
لم أنتظر طويلا في شربين، فالانتظار قد يكلفك وقتاً وجهداً، أنت في غنى عنه، درجة أن يختار لك أحدهم فطورك وما تشرب، دون أن تتفوه بشيء، وكل ما تقوله"صباحك قشطة" أو"يسر الله أمرك" حتى ترحل سريعاً.
 
يبدو أن مقعدي في السيارة، اعتاد ركوبه ضخام الجثة، ليس في تنجيد أو شيء يهون تلك الثلاث ساعات، مدة الطريق.
 
هون علي طريقي موجات إذاعة صوت العرب من القاهرة، وسورة الدخان للمنشاوي، وأغاني القيصر كاظم، وطريق بنها الحر.
 
كثير من الذكريات تؤنسني أيضاً، دراستي الناجحة، وعلاقاتي الفاشلة، وحياتي العملية المتعبة، وقلبي المعلق من قبل تلك العلاقات، وتلك العقبات التي تجاوزتها، أؤلئك الذين هزموني، وتجاوزتهم، ومن وقفت عندهم، عاجزاً عن الحراك، رافضاً الهجر أو النسيان.
 
رحلتي بقى منها القليل، غير أن قلبي معلق في حضن ذلك الصغير، الذي يظن نفسه كبيراً، ويعانق ويقبل كما الرجال، لكنه كان سعيدا حينما احتضنني من قدمي، قائلاً بلهجة طفل دمياطي: "مع السلامة يا محماااااد".
 
سامح الله أحلامي البريئاتي، وسامح ذكرياتي المنهكات، وسامح صانع القهوة الجميل، وسامح السائق، لأنه ظل صامتاً طول الطريق، ولم يغير إذاعة صوت العرب، طوال الساعتين ونصف.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق