ثورات "دليفري"

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2020 05:50 م
ثورات "دليفري"
محمد عبد اللطيف

أينما تكونوا، تصلكم ثورات الجزيرة "دليفري"، ومتى تريدون ستحصلون عليها "تيك أواى"، ستجدونها بالدوحة وفروعها في إسطنبول، فهي متوافرة بكل الأحجام وجميع الفئات، أطفال، شباب، شيوخ، نساء، عجائز، يرتدون ملابس الشتاء في الصيف، وملابس الصيف فى الشتاء.
 
قبل  أيام كانت إحدى ثورات فضائية "الجزيرة" مشتعلة أمام بيتى، المواجهات لا تتوقف بين آلاف المتظاهرين مع الشرطة، لكني لم أراها رغم نزولي إلى الشارع، فظننت أن دخان قنابل الغاز حجب عنى رؤيتها، أو ربما تم نقل الشارع، أو المنزل الذى أقطن  فيه إلى منطقة أخرى، عدت أتنقل بالريموت بين القنوات  الفضائية، علني أجد بيتى أو الشارع الذى يموج بالغليان والهتافات، فوجدته في مربع صغير على الشاشة، بجوار مربعات أخرى، بها ثورات أخرى، منتشرة في قرى ومدن أخرى.
 
المدهش أن الثورات المندلعة، لن يراها أحد في أي مكان، فقط، تجدونها على "الجزيرة" وفروعها "الشرق ، ومكملين"، يطلقونها في الميادين والنجوع والقرى والمدن، كما أنها عابرة للقارات، من شمال إفريقيا "المغرب وتونس" إلى أوروبا "هولندا وألمانيا "، فضلاً عن تركيا، وبلاد " الواق الواق"، المشاركون فيها يهتفون بكل اللهجات، وليس مهماً أن يكونوا مصريين، لكن المهم أنهم يهتفون ضد مصر، ويرددون "مرسى راجع" و"السيسي لازم يمشى".
 
"الجزيرة" تقدم لمشاهديها ثورات ماركة مسجلة، تذاع حصرياً على شاشتها، باعتبارها وحدها صاحبة حقوق الملكية الفكرية، والحاصلة على شهادة الأيزو "خدمة ما بعد التضليل"، وهي الخدمة المتمثلة في تخصيص برامج وساعات بث مفتوحة لجنرالات الفضائيات، يحركون الجماهير الافتراضية، ويوجهون مساراتهم، ويؤكدون  لهم أن الأمر سينتهي خلال ساعات  قليلة، سيرحل السيسي، ويعود الإخوان و..و... إلخ.
 
لا يجد المواطن العادى صعوبة فى اكتشاف أساليب التضليل الاعلامى ، التى تبثها الفضائية المشبوهة ، لزعزعة الاستقرار فى مصر والمنطقة العربية  ، بهدف تنفيذ أجندة أيدلوجية ، تتفق مراميها مع استراتيجية العثمانلى "رجب طيب أردوغان"، لذا فان المواطن المصري، لديه دراية بخبايا السيرك الاعلامى المنصوب  لحصاره ، حيث بات معلوماً للكافة ، حقيقة الثورات الافتراضية ، التى تنتجها ستديوهات قطر بتقنية الخداع، بالضبط مثلما حدث فى 25 يناير 2011 ،عندما جرى تضخيم الحدث بصورة لافتة .
 
الخداع والتضليل  الإعلامي، ابتكار أمريكى خالص، جرى تنفيذه باستخدام فضائية "الجزيرة " لصالح الأجندة الأمريكية، كتطبيق عملى لحروب الجيل الرابع، بما يعنى أن القناة في حد ذاتها، مجرد آداة في يد صانعيها، ويعنى أيضاً، أن حكام الدوحة وافقوا، على اختزال الدولة في قناة فضائية، تؤدى دوراً وظيفياً للمضى في تنفيذ استراتيجية صناعة الفوضى لصالح  تركيا. 
 
وفي أعقاب 11 سبتمبر 2001 وتدمير برجى التجارة العالمي، قرر دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي في فبراير 2002، إنشاء مكتب تابع للبنتاجون، أطلق عليه مكتب  "التأثير الاستراتيجي"، وكان الهدف الرسمى المعلن عنه، هو استمالة الشعوب العربية  للسياسة الأمريكية، وشن حملات التضليل والتلاعب بالمعلومات، عن طريق التواصل مع صحفيين في البلدان العربية، ولخدمة أغراض المكتب، تم إنشاء وحدة تابعة أطلق عليها "مكتب الخطط الخاصة"، يديره "أبرام شولسكى"، ويشرف عليه "بول وولفو فيتز"  نائب وزير الدفاع، بحيث تكون مهمته استخدام الصور والفيديوهات المفبركة، كوسيلة للتضليل، وتمريرها فى إطار مهام وحدة صناعة الأكاذيب، لكي يتم تداولها فى وسائل الإعلام كحقيقة، بهدف الإقناع والتأثير على العقول، وصولاً إلى تصديق ما يتم بثه.
 
أغلق المكتب من الناحية الشكلية فى مارس  2003 ، اثر افتضاح حقيقة مهامه ، فقد كشفت صحيفة " نيويورك تايمز "، عن الحقيقة التى تقف  وراء انشاءه واساليبه فى التعامل مع الصحافة العالمية ، حينها قامت الدنيا ولم تقعد فى الولايات المتحدة الأمريكية ، انتفض الكونجرس ، لمخاطر  اساليب التضليل بالمعلومات الكاذبة على الشعب الأمريكى  نفسه ، وأمام الهجمة الشرسة على البيت الأبيض والبنتاجون ، تراجع وزير الدفاع ، وأعلن اغلاق المكتب ، الا أنه استمر يمارس مهامه من الناحية العملية . 
 
أثناء الغزو الأمريكي للعراق، تم استخدام أساليب التضليل والخداع، بتطبيق تكتيكات مكتب التأثير الإستراتيجي، عبر فضائية الجزيرة، التى بثت صوراً وفيديوهات، مصحوبة بأخبار كاذبة، لزعزعة صفوف الجيش العراقي، بما يؤدى لانهياره أمام سيل الفيديوهات المفبركة، التى تشير إلى سقوط بغداد، وفرار القادة من المعسكرات، والسيطرة على القصور الرئاسية، وعلى خلفية ما كانت تبثه الفضائية المشبوهة، جرى ما جرى، وهو نفس الأسلوب الذى تم استخدامه في 2011 أثناء ما يطلق عليه ثورات الربيع العربي، وأيضاً هو نفس الأسلوب الذى تتبعه في إطار محاولاتها نشر الفوضى في مصر، فيديوهات مفبركة، ومظاهرات ليست موجودة على أرض الواقع، وإن وجدت فى مناطق نائية، فهي عبارة عن أعداد ضئيلة يعبرون عن غضبهم من موظفين نفذوا التعليمات بصورة خاطئة، لكنها ليست بالشكل الذي "تطنطن" بها الجزيرة وفروعها  فى اسطنبول.    
 
لا ينكر أحد أهمية الإعلام، ولم يعد خافياً على أحد، إن الحرب الحقيقية التى تدور رحاها في كل أرجاء المعمورة من أمريكا إلى روسيا ومن أوربا إلى الصين، هي حروب المعلومات، ومن يمتلك زمامها، يمتلك السيطرة على العقول، وفي القلب من تلك الحروب معارك الإعلام، الذي أصبح يوظف لأغراض سياسية، وأيدلوجية واقتصادية وعسكرية، فعن طريق الإعلام تتم صناعة وتشكيل وعي الجمهور، وهو الأمر الذى جعل  كثير من بلدان العالم ومنها مصر، أن تضعه  فى مقدمة مهامها.
 
واقع الحال يؤكد أن الدولة لديها استراتيجية إعلامية وطنية، مضادة لمحاولات تشويه العقل المصري، بما يعنى وجود مؤسسات إعلامية ضخمة لديها إمكانيات هائلة، مدعومة بأفق سياسي منفتح ومحصنة بتشريعات لضمان حريتها، لكن تبدو الحاجة ملحة لإعلاميين محترفين، لديهم القدرة على صياغة خطاب إعلامي توعوي، لمواجهة التضليل والأكاذيب، ولديهم ثقافة واسعة بمفهوم الأمن القومي، وفهم عميق للمسؤولية الوطنية، لترجمة تطلعات الدولة ومؤسساتها الضامنة لاستقرار.
 
التضليل  الاعلامى وسيلة قديمة، ظهرت مع ظهور الإعلام ذاته، كأحد الوسائل المستخدمة في الحروب النفسية لهدم الثقة، لكنه الآن أصبح صناعة ثقيلة، تنفق عليها حكومات وأجهزة استخبارات مليارات الدولارات، فهذه الصناعة تفوق في تأثيرها قوة السلاح، لذا فإن المقولة الرائجة التى أفرزتها عقلية "جوزيف جوبلز" وزير الدعاية النازي، أعطنى إعلام بلا ضمير أعطيك شعباً بلا وعي، تلائم تماماً المشروع الأيدلوجي لفضائية "الجزيرة"، والتي سارت على نهج الإخوان في خطابهم الإعلامي، وهو مشروع ينطلق من قاعدة راسخة في أدبياتهم الإعلامية والسياسية، عنوانها: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرين".
 
مفهوم التضليل والكذب والتلاعب بالعقول، الذي رسخ  له "جوبلز"، أصبح منهج تتبعه الكثير من وسائل الاعلام لخداع الشعوب، بغرض تعبئتها وحشدها لتحقيق مخططات استراتيجية ومصالح دولية.
 
في النهاية يمكن التأكيد على أن التلاعب بالعقول، لا يتم بصورة ارتجالية ،عشوائية، لكنه يتدرج باحكام وحرفية في الدعاية السوداء، حيث يتم الاستناد الى معلومات دقيقة تمثل جزء ضئيل من الحقيقة، لاستمالة المشاهد حتى يشعر بمصداقية الخبر والصورة المنشورة والفيديو،  ثم يتدرج إلى المبالغة بشكل احترافي، لكى ينال الثقة فى من المشاهد.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق