لا السر في بئر ولا جريمة كاملة

الأحد، 24 يناير 2021 10:00 ص
لا السر في بئر ولا جريمة كاملة
حمدي عبد الرحيم

 
لا وجود لجريمة مكتملة، ولا وجود لسر مصون، الجريمة دائمًا ما يعاني بنيانها من ثغرة تكشفها وتفضح مرتكبها وإن طال الأمد، والسر متى غادر صدر صاحبه لم يعد سرًا.
 
وهناك طرق للقدر لا تعد ولا تحصى، تضع بين أيدي الناس مفاتيح الأسرار التي تكشف الخفايا وتجبر على إعادة النظر لهذا أو لذاك.
عن تلك المفاتيح القدرية كتب الكاتب الكبير الأستاذ فتحي رضوان، رحمه الله، فصلًا ممتعًا من فصول كتابه الرائع عصر ورجال.
فصل رضوان كان عن الروائي والشاعر والناقد والمترجم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني.
كان رضوان يعرف المازني ويستلطفه ويقدر مواهبه، وفي يوم من أيام الثلاثينيات ذهب رضوان إلى المازني ليحصل منه على مقال لصالح جريدة "الصرخة" قدم المازني المقال الذي حمل عنوان "فاتح الأقفال"، فرح رضوان بالمقال ليس لقيمته لكن لأنه لن يدفع للمازني أجرًا، فقرأ المقال قراءة سريعة ودفع به إلى المطبعة، وما إن نُشر المقال حتى لعب القدر لعبته المفضلة في كشف الأسرار، فقد كان فاتح الأقفال هو فاتح أقفال القلوب وليس أقفال الأبواب.
زار رجل يدعى عبد الحميد رضا رضوان وقال له: أنا بطل مقال المازني.
دهش رضوان لأن عبد الحميد كان بسيطًا جدًا في هيئته وفي كلامه، فما الذي جمعه بعملاق من عمالقة الأدب مثل المازني؟
بعد قليل قدم عبد الحميد لرضوان مجموعة من الخطابات العاطفية الملتهبة جدًا والخاصة جدًا التي تبادلها المازني مع سيدة تدعى "فاخرة هانم".
فرح رضوان بالصيد الثمين، وعكف على قراءة الخطابات وتحليلها ليكتشف المفاجأة المذهلة.
بدأت الخطابات من طرف فاخرة هانم وكان هذا عجيبًا جدًا، فأن تتجرأ فتاة مصرية قبل تسعين عامًا على مراسلة رجل أديب لهو أمر يدعو إلى الشك والريبة، لكن هذا ما حدث، ففاخرة هانم قدمت نفسها بوصفها عاشقة للأدب وتريد الارتقاء بمستواها وذلك عبر التقرب من أديب عملاق مثل المازني، قالت فاخرة في أولى رسائلها:" فهل تأذن وآية إذنك أن تبعث لي بشيء من آثارك مع تابعي وقد يكون كتابي هذا ركيكا وغير معبر تماماً عن روح الإعجاب الذي ملأ نفسي وأخذ بتلابيب قلبي وقد يكون لي خير من هذا يوم أن نتعرّف أجسادا وأرجو أن أوفّق إلى ما يتناسب وقدرك السامي".
لا يعرف أحد كيف غامر المازني ومنح ثقته لمن لا يعرف عنها شيئًا سوى أنها تحب الأدب وترسل رسائل مع تابعها القائم على خدمتها.
كتب المازني ردًا على أولى الرسائل فقال: "سيدتي الفاضلة: تحياتي إليك وشكري على رسالتك الرقيقة الكريمة، واعتذاري عن الكتابة بالقلم الرصاص فإني أولاً مريض، وثانيا ليس في بيتي حبر! وثقي أني أقدّر نبل الإحساس الذي دفعك إلى كتابة هذه الرسالة ولولا أني مريض متعب ويدي ترتعش قليلاً من الضعف لحاولت أن أوفيها حقّها من الشكر، فهل تقبلين عذري وتغفرين لي كل هذه الزلات؟ أرجو ذلك، ويسرني أن أبعث إليك بنسخة من كتاب توجد منه نسخة في البيت، إجابة لطلبك، ومن بواعث أسفي أنّ نسخ الرواية في مكتبي نفدت، فإذا سمحت لي بإرسال تابعك يوم السبت إلى المكتب فإني أكون سعيداً بأن أقدم لك نسخة منها، ولقد شوقتني إلى روايتك، ولكني لا أجرؤ أن أطمح في الاطلاع عليها قبل نشرها إلا إذا شئت أن تغمريني بفضلكِ".
 
وفي رسالة ثانية يكشف المازني بقلمه عن وجيعة نفسه فيقول: "إنني كنت ولا أزال أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن بأي حال من الأحوال أن يعجبها إبراهيم المازني ولست أقول هذا تواضعاً أو على سبيل المزاح، ولكنني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت نتيجة هذه العقيدة أني كما أخبرتك في رسالتي الماضية تحاشيت في حياتي أن أحاول التحبب إلى امرأة ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبي لها، ذلك لاعتقادي في نفسي، أخشى أن أتلقّى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي فتثور فأتعذب وأعذبها معي، كيف يكون رأيك في رجل هذه حالته النفسية بلا مبالغة، وإني أقسم لك بكل ما يحلف به الأبرار أني لست كاذبا، ولا متخيلا. وأن هذه هي حقيقة اعتقادي في نفسي وحقيقة الواقع ولا شك أنها حالة شاذة - ولكن ما حيلتي؟ وأنا أخسر بسببها كثيراً ما يفوز به الرجال، وأرى مفاتن الحياة تتخطاني وتقع على سواي بغير سعي منه لها، فلا أتحسر لأني رضيت وروضت نفسي على الحرمان ووطنتها على ألا تأسف على شيء، وما أكثر ما يفوتني وأحرمه في دنياي في كل باب حتى باب المعيشة العادية ولكن ماذا أصنع؟
 
لقد قلت مرة لصاحبة اجتمعت بها على ظهر السفينة: يا سيدتي إنك جميلة وحرام عليك أن تلقي بجمالك بين يدي حمار مثلي لا يعجبه إلا البرسيم".
تقدمت القصة بل تعقدت عندما بعثت فاخرة هانم بصورتها إلى المازني، لقد كتب الرجل المسكين من وحي انفعاله بالصورة شيئًا يشبه الشعر العالي النفيس، ثم اقترح التابع أو مرسال الغرام أن يزور المازني بيت حبيبته، طرب المازني لهذا الاقتراح العظيم، وسافر مع مرسال الغرام إلى نواحي ميت غمر،ومن القطار أشار التابع إلى قصر منيف وقال: هذا قصر الهانم، حيث تعيش مع أمها ذات الأصول التركية لأنها حفيدة مدحت باشا بطل الدستور التركي!
 
ثم جاءت الطامة الكبرى عندما كتبت فاخرة إلى المازني تطلب منه التقدم لطلب يدها بشرط أن يطلق زوجته!
 
هنا انتفض المازني وكتب ردًا يحمل قاصمة الظهر لقصة غرامه السري، كيف يطلق أم عياله وكيف يتخلى عن أولاده وكيف سينظر لنفسه في المرآة إن هو سعى إلى إرضاء قلبه على حساب أولاده وزوجته؟
 
لقد وصلت القصة إلى خاتمتها الحزينة وعرف الأستاذ فتحي رضوان أمورًا عدة.
 
أولًا: لا وجود لشخصية فاخرة هانم.
 
ثانيًا: القصة من ألفها ليائها هي من تأليف التابع عبد الحميد رضا فهو الذي كان يتقمص شخصية فاخرة.
 
ثالثًا: المازني لم يكن مراهقًا ولا شابًا طائشًا لقد كان في الواحدة والأربعين من عمره، ولكن عذره أنه كان يعيش في وحدة مطبقة وكان يبحث عن أنيس لقلبه.
رابعًا: ظن المازني أن سره لن ينكشف فأطلق العنان لقلمه ليصور مأساة عمره في شفافية وصراحة.
 
التابع السخيف الذي عبث بالمازني وورطه في قصة خرافية اقترح على الأستاذ فتحي رضوان أن يعرض على المازني نشر الرسائل في كتاب بمقدمة منه تشرح القصة بأبعادها، وفورًا هاتفت رضوان المازني وما إن سمع المازني بداية القصة حتى صرخ في الهاتف: “مفيش غير النيابة، هكلم النائب العمومي الوقت، الوقت حالًا".
 
يختم الأستاذ فتحي رضوان القصة قائلًا:" ورددت السماعة إلى مكانها وقد خيل لي أنها تنتفض انتفاضًا".
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق