لقاء بين أميرين

الأحد، 27 يونيو 2021 11:00 ص
لقاء بين أميرين
حمدي عبد الرحيم يكتب:

كتاب "شوقي وصداقة أربعين سنة" يصحح الصورة الخاطئة عن شوقى ويوضح الدور الذى لعبه والده في حياة ولده  
 
في الرابع عشر من شهر أكتوبر من العام 1932 توفي أمير الشعراء أحمد شوقي، وبعد وفاته بأربع سنوات نشر صديق عمره ورفيق دربه أمير البيان الأمير شكيب أرسلان كتابه "شوقي وصداقة أربعين سنة".
 
وفي ذلك الكتاب الذي يعد مجهولًا لكثيرين لمحات تستحق التوقف عندها.
 
ولد شوقي في السادس عشر من أكتوبر من العام 1868 وبعده بعام ولد الأمير شكيب، والاثنان ـ وفق القول الشريف ـ كل ميسر لما خلق له، لم يحرصا منذ نعومة أظفارهما على شيء مثلما حرصا على الأدب، شعره ونثره.
 
كان الأمير شكيب فوق العشرين بأشهر عندما غادر بلده لبنان في العام 1890 قاصدًا مصر المحروسة لزيارة شيخه الشيخ الإمام محمد عبده، فقد كان الشيخ الأمام صديقًا لوالده ولأسرته.
 
عندما نزل الأمير ضيفًا معززًا مكرمًا على الشيخ الإمام كانت النخبة المصرية تجتمع دائمًا في بيت الإمام، وعن ذلك قال الأمير شكيب:" وكان أكثر اجتماعنا ذلك الوقت بأستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده وبرهطه المعهودين؛ سعد أفندي زغلول وأخيه فتحي، والشيخ علي الليثي والشيخ عبد الكريم سلمان وإبراهيم أفندي اللقاني وحفني أفندي ناصف، والسيد أحمد محمود من الرحمانية، والسيد إبراهيم الوكيل من دمنهور، والشيخ علي يوسف لأول ظهور «المؤيد»، وأحمد زكي باشا الذي هو خاتمة مَنْ أتذكَّره من رجال تلك الحلقة، رحمهم الله أجمع. وكانت اجتماعاتنا مُتواصِلة وأسمارنا مُتطاوِلة ومذاكراتنا للقاصي والداني شامِلة، ولكنَّنا لم نكن نسمع في ذلك الوقت بشخص يُقال له «شوقي» ولا أحسَسْنا له رِكْزًا".
 
الجملة الأخيرة تكشف عن حقيقة طالما ذكروا عكسها، فهم يقولون دائمًا أن شوقي قد ولد وفي فمه ملعقة من الذهب وأنه ولد مشهورًا وإن كل أسباب الشهرة والنجاح كانت بين يديه وطوع بنانه!
 
الجملة الأخيرة تؤكد أن شوقي قد نحت في الصخر لكي يصل إلى المكانة التي وصل إليها بفضل الله ثم موهبته، فالنخبة المصرية وكذا الشامية لم تكن قد سمعت في ذلك الوقت بشوقي ولا بشعره، وكان الشاعر المعروف في تلك الأيام هو الفارس محمود سامي البارودي، ولكي يصل شوقي إلى القمة التي تربع عليها فقد عمل كثيرًا وتعب كثيرًا ليسجل اسمه في سجلات الشعر العربي.
 
انتهت زيارة أرسلان للقاهرة فأوصاه الإمام محمد عبده أن يكتب أبيات في الخديوي توفيق، فمر شكيب بالإسكندرية وهو في طريقه إلى تركيا، وترك لدى قصر الخديوي قصيدة، فوجئ بنشرها في الوقائع المصرية.
 
يقول الأمير شكيب: "خرجت إذن من مصر في أواخر سنة ١٨٩٠ وأنا لا أسمع بشاعر اسمه شوقي في مصر، وكنت أوانئذٍ أراسل جريدة الأهرام، وكان صاحب الأهرام يكاتبني كثيرًا ويبني كثيرًا من الآراء على ملاحظاتي وإذا أرسلت إليه بمقالة جعل عنوانها «لأحد الأفاضل السياسيين»، فإذا راجع القارئ أهرام سنة ١٨٩٠ والتي بعدها وجد بقلم «أحد الأفاضل السياسيين» فصولًا سياسية كثيرة، وبينما كنتُ أطالع الأهرام في ذات يوم وقع نظري على أبيات لامية في مدح الخديوي توفيق، فيما أذكر قال عنها الأهرام إنها من نظم «أحمد أفندي شوقي»، ولما كان هذا الناظم مجهولًا عندي لم أشأ أن أُضيِّع وقتي بقراءة تلك الأبيات فلم أعلم منها كثيرًا ولا قليلًا، إلَّا أنه لم يطُلِ الأمرُ حتى قرأت شعرًا آخر لهذا الذي يُقال له أحمد أفندي شوقي، فجرَّبت هذه المرة أن أقرأه فلما قرأته لم أمُجَّه ووجدته من الشعراء الذين يُقال فيهم: من حقِّه أن تسمعه".
 
العجيب أن شوقي قد ذكر لشكيب أنه قد أعجب بقصيدته التي كتبها في مديخ الخديوي، وهى تلك القصيدة التي فوجئ شكيب بنشرها في الوقائع المصرية، وهى الجريدة الرسمية الأولى في ذلك الوقت.
 
في 1892 شعر شكيب ببعض التعب فسافر إلى فرنسا لتلقي العلاج، وفي السنة ذاتها كان شوقي مقيمًا في فرنسا لدراسة الحقوق في مونبلييه كان شوقي يعرف الأمير شكيب معرفة سماع وكان الأمير يبادله المعرفة نفسها.
 
يقول الأمير شكيب: "في أثناء العطلة المدرسيَّة جاء إلى باريس ومعه رفيقٌ اسمه دلاور، فبينما نحن في الحي اللاتيني بحسب قولهم؛ إذ جمعتنا الأقدار وما عدْتُ أتذكَّر كيفية اجتماعنا وتعارُف بعضنا مع بعض، ولكن لم نجتمع حتى صرنا كأخَوَيْن، وغدونا نجتمع كلَّ يوم مرة بل مرتين، وأكثر تلاقينا كان في مقهًى يُقال له مقهى داركور".
 
ومن غريب الاتفاقات أننا في سنة 1926 تلاقينا أنا وشوقي-رحمه الله- في باريس، جاء فسلَّم عليَّ في فندق ماجستيك؛ فذهبت أردُّ له السلام في فندقٍ كان نازلًا به في الحي اللاتيني، فسألت عنه فقيل إنه خرج إلى النزهة وإذا بهذا الأوتيل على مسافة مائة متر من مقهى داركور، وإذا بشوقي جالس هناك ومعه مُطرِبه محمد عبد الوهاب، فجلست إليهما وأخذت أتأمَّل في دوران الدهر وردِّ العَجُز على الصَّدْر؛ فقد كنتُ أوَّل مرة عرفت فيها شوقي أجلس وإياه في هذا المقهى نفسه، ومضى على ذلك ستة وثلاثون حولًا ولم نجتمع في باريس، فلما اجتمعنا إذ بنا من دون تعمُّد في هذا المقهى أيضًا، فقلت لشوقي: أتدري كم سنة مضت على اجتماعنا في هذا المقهى؟ هذه ستُّ وثلاثون سنة، وكان رحمه الله لا يرتاح إلى الأحاديث التي تذكِّره بالشيخوخة، فقال لي: تمسُّكك بهذه التواريخ لا أدري لمَ؟ فضحكت وعرفت أنه ضاق صدْرُه من هذه الذكرى، وأنا قصدت أن أتذكر نعمة بقائنا طول هذه المدَّة ولقائنا من بعدها؛ هذا إذا كان طول العيش معدودًا من النعم.
 
وفي أثناء لقائنا الأول كنا نتذاكر حول أمور كثيرة، ولكن أهم حديثٍ كنَّا نخوض فيه هو الشعر، وكان مع شوقي ديوان المتنبي وكان يحفظ منه ولا شكَّ أنه انطبع عليه، هذا وبقيت أنا وشوقي نتساقى كؤوس الصفا ونتبادل عواطف الإخاء مدة شهر من الزمن إلى أن حان إيابي إلى الشرق فودَّعته وداعَ الأخِ لأخيه وفارقته فراق الصفيِّ لمَنْ يصافيه".
 
في الفقرة الماضية جمل كاشفة، منها الدور الذي لعبه شوقي في حياة موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، فقد تعهده بالعناية والرعاية وجعله ملازمًا له في الحل والترحال، وتلك الملازمة كان لها أبلغ الأثر في تطور عبد الوهاب وفي انفتاحه على موسيقى العالم، فتعلم ثم تدفق.
 
ثم ها هو شوقي يحفظ شعر المتنبي، ويحرص على أن يكون ديوانه بين يديه وهو في باريس، وفي هذا رسائل للذين لا يقرؤون تراث وميراث أمتهم بل يعبون على من يقرأ ذلك التراث.
 
وفي فقرة جديدة يقول الأمير شكيب:" أنا الذي أشار عليه بأن يجمع قصائده ويجعل منها ديوانًا يسير في الأقطار، فسألني: وأيَّ اسم أعطيه؟ فقلت له: سمِّه بالشوقيات؛ فنسبة هذا الشعر إليك هي عندي كافية. فلما جمع ديوانه أطلق عليه اسم «الشوقيات» كما أشرت عليه به، وقد ذكر-روَّح الله روحه-هذه القصة في ديوانه الطبعة الأولى سنة ١٨٩٨، فقال: جمعتْنِي باريز في أيام الصبا بالأمير شكيب أرسلان وأنا يومئذٍ في طلب العلم والأمير-حفظه الله-في التماس الشفاء، فانعقدت بيننا الألفة بلا كلفة، وكنت في أول عهدي بنظم القصائد الكُبَر، وكان الأمير يقرأ ما يرِدُ عليه منها منشورًا في صحف مصر، فتمنَّى أن تكون لي يومًا مجموعة، ثم تمنَّى عليَّ إذا ظهرَتْ أن أسمِّيَها «الشوقيات»، ثم انقضت تلك المدَّة فكأنها حُلم في الكَرَى أو خلسة المُختلِس".
 
ويكشف الأمير شكيب عن دور عظيم لعبه والد أحمد شوقي في حياة ولده، ولولا هذا الدور لضاع الكثير من شعر شوقي ولتأخر ظهور اسمه لسنوات، ينقل شكيب عن شوقي قوله: "كانت وفاة والدي من نحو ثلاث سنوات، فكان لي عجبًا أن وجدت بين أوراقه شيئًا كثيرًا من مُشتَّت منظومي ومنثوري ما نُشر منهما وما لم يُنشر، قد كُتب بعضه بالحبر والبعض الآخر بالرصاص، والكلُّ خط يد المرحوم، وقد لفَّه في ورقةٍ كُتِبَت عليها هذه العبارة: «هذا ما تيسَّر لي جمعه من أقوال ولدي أحمد وهو يطلب العلم في أوروبا؛ فكنت كأنِّي أراه، وأني آمره أن يجمعه ثم ينشره للناس؛ لأنه لا يجد بعدي مَنْ يعتني بشئونه، وربما لم يُوجَد بعده مَنْ يُعنَى بالشعر والآداب»، فبينما أنا ذات يوم تَعِبٌ بهذه الأوراق حَيْران لوصيَّة الوالد كيف أجريها زارني صديقي مصطفى بك رفعت، فحدَّثته حديثي فسألني أن أُعِيرَه الأوراق أيامًا ثم يعيدها إليَّ ففعلت، ثم لم يمضِ شهرٌ حتى بعث بها إليَّ وإذا هي قد نُسِخَت بقلمٍ مليحٍ يؤيِّده ذوقٌ صحيح؛ بحيث لم يبقَ إلَّا أن تُدفَع إلى المطابع، فأخذتها وبودِّي لو وفَّيتُ صديقي المشار إليه حقَّه من شُكْرِ الصنيع، وأنا أقول في نفسي: لئن صدق أبي في الأولى لقد ظُلم في الثانية؛ فإن الخير لا يزال في الناس".
 
ثم مرت السنون والعلاقة بين الرجلين راسخة والمحبة متزايدة، وقضت أمور سياسية بحرمان شكيب من الإقامة في القاهرة، فنزل أرض السويس وعرف أصحابه من أهل القاهرة بوجوده فذهبوا لزيارته، وكان على رأسهم أمير الشعراء، ومن العجيب أن ذلك اللقاء كان الأخير بين الصديقين يقول شكيب: "ولما اجتمعتُ بشوقي في السويس آتيًا من القاهرة إليها لزيارتي، وكانت وا أسفاه الملاقاة الأخيرة بيننا لحظت عليه آثار الضعف بَادِيَة، وكأنما كان أكبر من سنِّه بعشر سنوات على الأقل، وعجبت من أن تنال الشيخوخة منه هذا النيل وبين الإخوان الذين كانوا قد اجتمعوا هناك مَنْ هُمْ أعلى سنًّا بكثير، ولم يتقوَّس لهم ظهر، ولم يتَغَضَّن لهم جَبِين، ولم يأخذ منهم الدهر ما أخذ من شوقي، فشعرت في نفسي بالخوف على صحَّته ورأيته قد سبق سنَّه بمسافة طويلة. فبعد أن تفارقنا كنت لا أزال أترقَّب أخبار صحته وأتمنَّى لو يأتي إلى سويسرة فأشاهده، وما زلت أتحسَّر على تلك الفرقة".
 
ثم أسدل القدر الستار على حياة أمير الشعراء، وعن تلك اللحظة الفارقة يقول شكيب: "وبينما أنا في أحد أيام أكتوبر سنة 1932 أقرأ جريدة الطان، إذ وقعت عيني على خبر وفاة كبير الشعراء في مصر، ووقع في اسم «شوقي» خطأ فهلعت لهذا الخبر واضطربت أعصابي، وقلت لا يكون هذا الفقيد غير شوقي، وثاني يوم تحقَّقنا الخبر وكان يومًا له هَوْله، ولما جاءت جريدة «الجهاد» علمت منها أن أمير الشعراء فصل من هذه الدنيا إلى رحمة ربِّه في منتصف الساعة الرابعة من صباح الجمعة ١٤ جمادى الآخرة سنة ١٣٥١ وفق ١٤ أكتوبر سنة ١٩٣٢، وقد أَبَّنهُ الأستاذ البليغ توفيق دياب بعباراتٍ متناسبة مع علوِّ مقامه في الأدب".
 وبعدُ فما أحوجنا إلى تلك المودة الصافية بين الأدباء، وإلى تلك المحبة التي فرضت نفسها على ما كتبه أمير البيان عن أمير الشعراء. 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق