مصر جميلة.. وفى الشدائد أجمل
الأربعاء، 09 يوليو 2025 08:18 م
شيرين سيف الدين
الحديث عن حريق سنترال رمسيس وما أعقبه من تداعيات لا يحتمل مزاحًا أو تهوينًا من شأنه بأي حال من الأحوال، فقد أودى الحادث الأليم بأرواح أربعة من خيرة المهندسين، نسأل الله أن يتقبلهم في زمرة الشهداء، وأن يُلهم ذويهم الصبر والسلوان.
وبرغم ما خلفه الحدث من ألم، يبقى – في جوهره – حادثًا عارضًا. حريقًا قد يصيب أي منشأة في أي بقعة من العالم، حتى في أكثر الدول تقدمًا وتجهيزًا، حيث نشهد بشكل شبه يومي حرائق ضخمة تتسبب في خسائر جسيمة، بشرية ومادية، دون أن تتمكن هذه الدول، بكل ما لديها من إمكانات، من تفادي الكارثة أو احتوائها لحظيًا أو حتى في غضون أيام.
وفي هذا المقال، لا أنوي الخوض في الجوانب التقنية أو الهندسية أو الأمنية للحادث، حيث إنني لست من المتخصصين، ولا أملك من التفاصيل ما يؤهلني لتحليل أبعاده ، لكن ما لفت انتباهي، واستوقفني طويلًا، هو ما ظهر جليًّا من مشاهد إنسانية خالصة، تعكس معدن هذا الشعب الأصيل، وتستحق التأمل والتوثيق.
أولهم كان مشهد البطل.. ابن البطل
من أولى الصور التي علقت بذهني كانت صورة ضابط المطافئ "نور امتياز كامل"، الشاب الذي كُتب اسمه في سجل الأبطال، وارتبط اسمه فورًا باسم والده الشهيد الذي قدّم روحه في موقعة الواحات، شجاعة الابن لم تكن محض صدفة، بل ميراث فطري لبطولة حقيقية، سكنت قلبه وعقله، فتقدّم الصفوف في حريق سنترال رمسيس، دون تردد أو خوف.
وهنا، لا بد أن نقف إجلالًا أمام هذه الحقيقة المؤكدة إن شعب مصر لا يهاب الموت في سبيل الوطن ، فرغم استشهاد الأب في حادث إرهابي، لم تنكسر نفس الابن، ولم يخشَ طريق الخطر، بل على العكس، اختار طوعًا أن يسلك ذات الدرب الشجاع، مدفوعًا بحب الوطن والانتماء الصادق.
إن ظهور بطل من نسل شهيد ليس مجرد مصادفة، بل هو رسالة حية لكل من توهم أن الإرهاب قد يرهب المصريين أو ينال من عزيمتهم ، فهؤلاء لا يخضعون للتهديد، ولا يعرفون الهروب ، إنهم أبناء مصر الذين يقفون دومًا على خط الدفاع الأول، ويثبتون أن الشجاعة ليست قرارًا رسميًا، بل اختيارًا ينبع من القلب.
أما المشهد الثاني فكان لحظة حب في قلب النيران.
المشهد الذي هزّ وجداني بحق، فكان لزوجة أحد العاملين في السنترال، تقف وسط ألسنة الدخان والنيران، تنتظر رؤية زوجها سالمًا، وعندما لمحته، هرعت إليه بلهفة غامرة، تربت على كتفه مطمئنة إياه، في لحظة نادرة الصفاء، لم تُرتب لكاميرا أو لتيك توك أو لافتعال بطولة.
هذه اللحظة البسيطة والعظيمة تحمل بين طيّاتها الكثير من الدلالات ، ففيها تظهر المرأة المصرية وقت الشدة السند والمأوى، الحبيبة الوفية التي لم يمنعها الخوف أو الخطر من انتظار شريك حياتها ، وقد بدا أن هذا الزوج الموظف البسيط، كان سكنًا وأمانًا لزوجته، فزرع في حياتها ما جناه من حب ووفاء، فشعرت بالرعب من فقدانه وخافت عليه كأنها تخاف على روحها.
كثيرون يظنون أن المال وحده يكسب الزوج محبة زوجته، لكن هذا المشهد ينفي هذا الظن، فقد رأينا كيف تغلّبت المشاعر الصادقة على الظروف المادية، وهذا هو الرزق الحقيقي، الذي وصفه الله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
أتمنى أن يتأمل المقبلون على الزواج هذا المشهد، ويتعلموا أن حسن الاختيار هو أساس الرحمة والسكينة.
وجاء المشهد الأهم في الخاتمة وهو سواعد مجهولة وعزائم لا تلين.
من أجمل ما رصدته كذلك، تلك الكتيبة من الجنود المجهولين، المهندسون والفنيون والعاملون في مجال الاتصالات الذين اندفعوا فورًا لإنقاذ الموقف، بلا تذمر، بلا مقابل، بلا حسابات.
لم يتحدث أحدهم عن راتب ضعيف، ولم يردّدوا العبارة الشهيرة "على قد فلوسهم"، التي يتذرّع بها المتقاعسون بل على العكس نزلوا إلى الشارع، جلسوا تحت الشمس، وبدأوا العمل بكل تركيز، يملؤهم هدف واحد "إصلاح ما أتلفه الحريق " وإعادة الخدمة للناس.
مشهد يثبت أن مصر غنية بسواعدها، وعقولها، وأبنائها الذين لا يعرفون الكسل ولا التأجيل ، يكفي أن لدينا الملايين من أبناء هذا الوطن يعملون بإخلاص في صمت، ولا نحتاج إلى استيراد عقول من الخارج، فلدينا ما يكفي لنحمي ونبني وننهض.
إن أمثال هؤلاء يستحقون التقدير المادي والمعنوي فيجب تكريمهم من الدولة بعد انتهاء الأزمة ، كما أتمنى أن يحصلوا على مكافآت مادية كبيرة مقدمة من الحكومة ومن شركات الاتصالات ورجال الأعمال بالرغم من تقديمهم الجهد دون انتظار مقابل إلا أنهم يستحقون مقابل يشجعهم على استمرار العطاء ويشعرهم بالتقدير.
في النهاية نجد أن الصورة النهائية تظهر شعبا لا يترك البعض حتى في أحلك اللحظات بل يقف كالبنيان المرصوص.
لن يكفي مقال أو عشرة للحديث عن تكاتف المصريين وقت الشدة، وبرغم محاولات البعض تشويه الصورة بالتركيز على السلوكيات السلبية، فإن مواقف الشعب وقت الأزمات تكشف عن طينة نقية لا تتغير.
ففي ظل تعطل الشبكات وخدمات الدفع، ظهرت أجمل ملامح الشهامة، فتجد صاحب مطعم يقول لزبائنه "الدنيا ما طارتش" ويمهلهم حتى تعود الشبكة، وسائق يوصّل أحد الركاب بلا مقابل، واثقًا من عودته للدفع لاحقًا، وسيدة مسنة حاول الناس مساعدتها بالمال كل حسب استطاعته حين لم تستطع سحب مبلغ بسيط متبقي من معاشها، لكنها رفضت العون بإباء مكتفية بثلاثين جنيهًا فقط هي ما تبقّى لها في مشهد إنساني جميل يجمع بين الرحمة وعزة النفس.
هذه القصص الصغيرة المليئة بالنبل، لا تظهر إلا في المحن ، وكأن الشدائد تمتحن القلوب، فتكشف المعادن الحقيقية، وما تزال قلوب المصريين عامرة بالخير، وهذا سر مصر المحروسة، الذي لا تدركه العيون الباردة ولا تفهمه النفوس الرخيصة التي تحكمها المادة فقط.
في الختام..
مصر حقا جميلة وشعبها أجمل وأنقى وأطيب شعوب الأرض مهما حاول البعض تشويه صورته، كما أن مصر وشعبها في الشدائد أجمل وتخرج منه في المحن أزهى صور التضامن، وتتجلى فيه أنبل القيم، ومهما اشتدت الأزمات، تبقى مصر واقفة، شامخة، تنزف أحيانًا، لكنها لا تسقط.
حفظ الله مصر وشعبها الأصيل، الذي يعطي بلا حساب، ويقف في وجه المصاعب بشجاعة نادرة، ويقدم يد العون للمحتاج والغريب قبل القريب.
نسأل الله أن يديم الرحمة والمودة في قلوبنا، ويُعلي شأن هذا الوطن وأبنائه دائمًا وأبدًا رغم أنف المرضى والحاقدين.