الأمير النائم.. عشرون عامًا في حضن الأبوة والصبر
الخميس، 24 يوليو 2025 05:04 م
عبد الحليم محمود
في غرفة بيضاء داخل جناح خاص بمستشفى الملك فهد التخصصي بالرياض، كان يرقد شابا في مقتبل العمر، ساكن الجسد، كأن الصمت استوطن أعماقه، لكن قلبه ظل نابضًا، يرفض إعلان النهاية. عشرون عامًا مرّت، ظل خلالها الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبدالعزيز، الابن الأكبر للأمير خالد، معلقًا بين الحياة والموت، فيما أبوه يجلس إلى جواره، يقاوم المستحيل بحبٍّ لا يعرف الانكسار.
في عام 2005، كان الوليد شابًّا في الكلية العسكرية، يخطو أولى خطواته نحو حياة يملؤها الطموح والأحلام. ثم، فجأة، حادث سير أوقف الزمن بالنسبة إليه، وألقى به في غيبوبة طويلة. في الخارج، كانت الأيام تركض، والسنوات تغيّر وجوهًا وألوانًا، أما في جناح المستشفى، فقد ظل الزمن ساكنًا، يدور في فلك جسد هشٍّ وروح غائبة.
والده، الأمير خالد بن طلال، شقيق الملياردير المعروف الأمير الوليد بن طلال، لم يكن يملك أمام سرير ابنه سوى قلبه ودعاءه. الثروة والجاه والنفوذ، التي جعلت اسم العائلة يلمع في أنحاء العالم، وقفت عاجزة أمام لحظة قدر. وكأن القدر أراد أن يذكّرنا بأن المال قد يشتري أجنحة لمستشفيات ومعدات متطورة، لكنه لا يستطيع شراء لحظة وعي واحدة أو نبضة حياة مسروقة.
قال الأطباء إن وعيه غاب إلى غير رجعة، وإن ما بقي منه ليس سوى جسد تُبقيه الأجهزة حيًّا. لكن الأمير خالد لم يُصدِّق يومًا أن الأمل انطفأ. كل صباح، كان يجلس إلى جوار ابنه، يقرأ له القرآن، يمسك يده، يحكي له عن العائلة، عن ضحكاتهما القديمة، عن شمسٍ تشرق خلف النافذة؛ لعل شيئًا في روحه يسمع، لعل الحياة تختبئ في مكان ما وتعود.
ومع مرور السنوات، صار الوليد أكثر من ابن نائم؛ تحوّل إلى رمز للصبر والأمل. أجيال كبرت، مدن تبدّلت، وجوه شاخت وأخرى وُلدت، وفي جناح المستشفى ظل كل شيء ساكنًا، كما لو أن الغرفة البيضاء أصبحت جزيرة معزولة عن حركة العالم. أمّا الأب، فبقي ملاكًا حارسًا، يقلب جسد ولده بيديه حتى لا تؤذيه التقرحات، يشرف على تفاصيل الرعاية، وكأن الحب وحده كان يحاول إقناع القدر بالتراجع.
ثم جاء اليوم الذي خشِيه الجميع. أعلن الأمير خالد بن طلال، بصوت يقطر إيمانًا وصبرًا، نبأ رحيل ابنه الوليد، واختصر رحلة العشرين عامًا بكلمات من القرآن:
"يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً."
كانت آية قصيرة، لكنها حملت يقينًا بأن الغياب ليس نهاية، وأن الأرواح التي أحبت بصدق لا تضيع؛ بل تعود إلى منبعها الأول، حيث السلام المطلق والطمأنينة التي لا يعكرها ألم ولا فراق.
صُلِّي على الفقيد يوم الأحد الموافق 20 يوليو 2025، في جامع الإمام تركي بن عبدالله بعد صلاة العصر، وسط حضور مهيب وقلوب حملت له الدعاء والرحمة، كأن الناس جميعًا صاروا أهلاً له بعد سنوات من متابعة حكايته.
لقد غاب الأمير النائم عن الدنيا، لكنه ترك وراءه درسًا خالدًا عن الصبر الذي لا ينفد، وعن حبٍّ أعمق من الزمن، وعن قلبٍ أبوي ظل يقاوم الغياب حتى اللحظة الأخيرة.
وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا، ولا تكن عبد حزنك وقد جعل الله الصبر دواءً لكل قلب مكلوم."
الأمير النائم علّمنا أن الإنسانية لا تُقاس بالكلمات الرنانة ولا بالأفعال الصاخبة، بل بالقلوب التي تعرف كيف تحب وتصبر، حتى لو كان من تحبه غائبًا عن كل شيء.