حين يُختبر القلب بما لا يشتهي
السبت، 09 أغسطس 2025 06:03 م
عبد الحليم محمود
أشدّ ما يُبتلى به الإنسان، ليس الفقد ولا الخذلان، بل ذلك الامتحان الخفيّ الذي لا يراه الناس، ولا يُدوّن في السجلات، ولا يُواسى فيه صاحبه: امتحان الرضا حين تأتي الأقدار مخالفة لما تمنّى القلب، ومجافية لما بدا في الظاهر منطقيًّا.
أن تُفرض عليك حياة لم تخترها، وتُساق إلى طرق لم تحبها، ثم ترفع عينيك إلى السماء وفيك رجاء، فتتأخر الإجابة، أو تأتي بما لم تتوقّع... هنا يبدأ الاختبار.
ليس امتحانًا للعقل، بل امتحان للإيمان حين يُنتزع منك ما أحببت، أو يُحجب عنك ما دعوت به طويلًا. هناك لا تُختبر العقيدة في ظاهرها، بل تُختبر في أعمق نقطة في القلب: هل تثق بالله، ولو خالف ما ترجوه؟
كل لحظة خذلت فيها توقّعاتك، لم تكن عبثًا، بل ميدانًا خفيًّا لمعركة بين ما تشتهي النفس، وما يريده الله لك. تهتز، تتألم، تضيّق الظن أحيانًا، ثم تحاول أن تُهذّب قلبك، وتهمس لنفسك: لعل ما مُنعتَ منه، كان هو البلاء بعينه... ولعل ما أُخّر، قد كُتب له أن يُؤتى في أوانه.
لكن الرضا لا يُولد فجأة، ولا ينزل على القلب دفعةً واحدة. إنه يُنحت كما يُنحت الحجر: بالصبر، وبإعادة النظر، وبإيمان يتعلّم أن لا يتعلّق بالعطايا بل بالمعطي.
فالقلب لا يُهذّب بالخُطب، بل حين يُخذَل مرة، ثم أخرى، فيفهم أن الدعاء ليس صفقة، وأن الإجابة ليست شرطًا، وأن الله يُقدّر بحكمة، لا بعجلة الرغبة.
كل منعٍ لم تفهمه، كان تدريبًا على الاتساع. كل رجاءٍ لم يُستجب، كان بابًا لتصحيح البوصلة. فكم من دعوةٍ لو أُجيبت، لأخذتك إلى حيث لا تطيق، وكم من حلمٍ لو تحقّق، لكان عليك وبالًا لا ترى حدوده.
وهنا فقط، تتبدل المعادلة. حين يُحب القلب الله، لا ما يعطيه، ويؤمن بالحكمة وإن لم يفهمها، ويسكن إلى التسليم لا إلى الشكوى. حينها... يعرف الإنسان طعم السلام، لا لأنه حصل على ما أراد، بل لأنه قبل ما اختاره الله له.
وفي النهاية، لا أحد يعرف كيف يغرق في التسليم، إلا من وقف يومًا على الحافة، تتأرجح روحه بين الرجاء والاعتراض، ثم اختار ألا يسأل: "لماذا؟" بل أن يقول في صمت خاشع: "كما شئت يا رب... فقلبي بين يديك.