أنس الشريف.. مراسل رحل وبقيت وصيته تروي الحكاية
الإثنين، 18 أغسطس 2025 07:37 م
عبد الحليم محمود
في غزة، لا أحد يودّع أحدًا. الأحياء يرحلون سريعًا، والشهداء أسرع. السماء أقرب من الأرض، والموت أقرب من المسافة بين الكاميرا والعين. صباح الأحد، كانت خيمة الصحفيين منصوبة بجوار مستشفى الشفاء، تمنح أصحابها استراحة قصيرة من ضجيج الميدان. في لحظة، لم تعد الخيمة موجودة؛ غارة إسرائيلية أنهت المكان ومن فيه، وتركت دخانًا أسود فوق بقايا المعدات وبطاقات صحفية لم يعد أصحابها يجيبون على النداء. بين الضحايا كان أنس آل الشريف، مراسل "الجزيرة"، ومعه محمد قريقع، والمصورون إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة. الجيش الإسرائيلي قال إن أنس «عضو في حماس»، أما "الجزيرة" فوصفت ما جرى بأنه «اغتيال مدبّر».
قبل دقائق من استهدافه، كتب أنس على "إكس": «قصف لا يتوقف... منذ ساعتين والعدوان يشتد». لم يكن يعلم أن هذه الجملة ستكون خاتمته. وُلد في مخيم جباليا، وحلم بالعودة إلى عسقلان، حمل الكاميرا بدل البندقية، والميكروفون بدل الراية، وآمن أن الصورة قد تغيّر شيئًا أو تحفظ الذاكرة على الأقل. في وصيته كتب: «إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي... أوصيكم بفلسطين، وأوصيكم بأطفالي، وبألا تسكنكم القيود». كلمات قليلة، لكنها أثقل من الركام.
كان أنس يبدأ يومه بالاتصال بوالدته لطلب الدعاء، ويعود إليها في المساء بصوت منهك، لكنه مطمئن لأنه أدى رسالته. زملاؤه يروون أنه كان يقترب من مواقع القصف بلا تردد، وأنه رأى في كل صورة فرصة للشهادة على ما يجري. أكثر من مئة صحفي قُتلوا في غزة منذ بدء الحرب، لكن رحيله ترك فراغًا أكبر من مجرد رقم في إحصاء. فاستهداف الإعلاميين هناك ليس حادثًا عابرًا، بل جزء من معركة على الحقيقة ذاتها.
رحل أنس، وبقيت عيناه في الأرشيف وصوته في الشريط الأخير، وبقيت وصيته التي أوصى فيها بفلسطين وأطفاله وألا يقبل أحد بالقيود. في غزة، الخلود الممكن هو أن تترك ما لا يمحوه القصف، وأن تبقى شاهدًا حتى بعد أن يرحل الجسد. يموت الصحفي واقفًا كما عاش، لا يترك سلاحًا بل صورة، ولا يكتب بيانًا بل وصية، والوصايا في فلسطين لا تُطوى مع الورق، بل تُفتح كل صباح .