بجاحة إسرائيلية تهدد بانفجار إقليمى
السبت، 13 سبتمبر 2025 02:46 م
لم يكن الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية الدوحة، الثلاثاء الماضى، حدثًا عابرًا أو مجرد عملية عسكرية عادية تضاف إلى السجل الدموي لدولة الاحتلال، بل جاء ليؤكد انتقال إسرائيل إلى مرحلة جديدة من التبجح السياسي والأمني، عنوانها تحدي القوانين الدولية بشكل سافر، وتهديد استقرار المنطقة دون حساب للعواقب، حتى لو كان الثمن تقويض الأمن الإقليمي ومصالح القوى الكبرى في الشرق الأوسط.
الهجوم استهدف اجتماعًا قياديًا لأعضاء حركة حماس الفلسطينية لمناقشة المقترح الأمريكي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما اعتبرته القاهرة والعديد من العواصم العربية والدولية انتهاكًا فجًا لسيادة دولة عربية مستقلة، وضربة مباشرة للجهود الدبلوماسية الرامية إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة. هذه السابقة غير المسبوقة تكشف بوضوح أن حكومة بنيامين نتنياهو لم تعد تكترث بالحد الأدنى من الأعراف الدولية، وأنها قررت توسيع نطاق الصراع ليشمل أراضي دول عربية لم تكن طرفًا مباشرًا في المواجهات.
وما يؤكد البجاحة الإسرائيلية، إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي أن العملية كانت "إسرائيلية 100%"، ومن بعده تأكيد رئيس الأركان الإسرائيلى إيال زامير، بأن تل أبيب ستواصل العمل لتنفيذ ما وصفه بـ"محاسبة الأعداء"، وأن الجيش سيواصل تنفيذ مهامه "فى أى مكان وبأى مدى قريب أو بعيد".
وأدانت الخارجية القطرية الهجوم الإسرائيلى الذي استهدف "مقرات سكنية لعدد من أعضاء المكتب السياسي لحماس بالدوحة"، وقالت: "الاعتداء الإسرائيلي الإجرامي يشكل انتهاكا صارخا للقوانين والأعراف الدولية كافة، وتهديدا خطيرا لأمن وسلامة القطريين والمقيمين في قطر".
وتسبب الهجوم الإسرائيلي في استشهاد 6 أشخاص بينهم نجل خليل الحية، القيادي في حماس، وتبعه إدانات عربية شديدة لإسرائيل وانتقادات دولية، بالإضافة إلى 3 أفراد أمن قطريين.
والمؤكد أن استهداف وفد سياسي داخل عاصمة عربية آمنة لا يمكن تفسيره إلا باعتباره رسالة من بنيامين نتنياهو مفادها أن إسرائيل فوق القانون، وأنها قادرة على ملاحقة خصومها متى وأينما شاءت، ضاربة بعرض الحائط ميثاق الأمم المتحدة وحرمة سيادة الدول. هذه هي اللحظة التي يتحول فيها العدوان إلى تبجح، إذ لم يعد الهدف الأمني وحده هو المحرك، بل أصبح استعراض القوة والاستخفاف بالنظام الدولي هو العنوان الأكبر.
وفي مواجهة هذا التطور الخطير، جاء الموقف المصري واضحًا وحازمًا. الرئيس عبدالفتاح السيسي بادر بالاتصال بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، معربًا عن إدانة مصر البالغة واستنكارها الشديد لهذا العدوان، ومؤكدًا التضامن الكامل مع الدوحة، قيادةً وشعبًا، في حماية أمنها وسيادتها.
هذا الموقف لم يكن مجرد تعبير عن تضامن دبلوماسي، بل حمل أبعادًا أعمق تتعلق بالأمن القومي العربي. فالقاهرة أعلنت بوضوح أن أمن قطر جزء لا يتجزأ من الأمن العربي، وأن المساس به يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري ذاته. كما شدد الرئيس السيسي على أن ما جرى لا يمثل انتهاكًا لسيادة قطر فحسب، بل تهديدًا للأمن والسلم الإقليمي والدولي، الأمر الذي يفرض على المجتمع الدولي التحرك العاجل لمحاسبة إسرائيل.
لم يكن حديث الرئيس السيسي مجرد إدانة لفظية، بل حمل تحذيرات استراتيجية بالغة الأهمية. فالهجوم الإسرائيلي، في توقيت حساس تحاول فيه أطراف عديدة التوصل إلى تهدئة في غزة، يعكس رغبة إسرائيلية في إفشال أي جهد للسلام. وهو ما يعني أن المنطقة قد تدخل مرحلة جديدة من الفوضى الممتدة، تمتد آثارها إلى مصالح القوى الغربية في الطاقة والتجارة وأمن الممرات البحرية.
لقد حذر السيسي مرارًا من أن السياسات الإسرائيلية، القائمة على التمادي في العنف وتوسيع دوائر الصراع، ستؤدي حتمًا إلى انفجار إقليمي يصعب السيطرة عليه. وجاءت عملية الدوحة لتبرهن على صحة هذه التحذيرات، حيث لم يعد الصراع محصورًا في الأراضي الفلسطينية، بل بات يهدد كل دولة عربية تسعى للقيام بدور وساطة أو احتضان حوار سياسي.
وكانت الخارجية المصرية، قد أكدت في بيان، أن النهج العدواني الإسرائيلي إنما يعكس بوضوح النية الإسرائيلية المبيتة لتدمير كافة فرص تحقيق التهدئة ووقف التصعيد والتوصل إلى اتفاق يضمن وقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، والغياب الكامل لأي إرادة سياسية لدى الجانب الإسرائيلي للتحرك في اتجاه السلام، والتمادي في العدوان والإمعان في الانتهاكات الممنهجة للقانون الدولي.
وحذرت مصر من مغبة هذا التصعيد الإسرائيلي الغاشم وغير المسبوق، وما ينطوي عليه من مخاطر جسيمة على استقرار المنطقة، وتقويض لجهود التهدئة، وتوسيع لنطاق المواجهات على حساب سلامة المدنيين واستقرار الشعوب، محذرة كافة الأطراف الإقليمية والدولية من السياسة الإسرائيلية المتهورة الهادفة لتوسيع دائرة الصراع وتقويض كل مكتسبات السلام خلال العقود الماضية.
والأحزاب المصرية بكافة أطيافها سارعت إلى إعلان رفضها القاطع للهجوم الإسرائيلي، واعتبرته اعتداءً سافرًا على السيادة العربية. فقد وصفت الأحزاب المصرية العملية بأنها جريمة حرب مكتملة الأركان، ودعت إلى تحرك عربي ودولي عاجل لوقف ما وصفوه بـ"البلطجة السياسية والعسكرية" التي يمارسها نتنياهو.
هذه المواقف الداخلية تعكس إجماعًا وطنيًا في مصر على خطورة ما جرى، وتؤكد أن القاهرة لا تنظر إلى الحادثة باعتبارها شأنًا قطريًا فقط، بل كتهديد استراتيجي للبنية الأمنية العربية برمتها.
وما لم تدركه إسرائيل أو تتجاهله عمدًا أن سياساتها العدوانية لا تهدد العرب وحدهم، بل تمثل خطرًا مباشرًا على مصالح القوى الغربية التي طالما وفرت غطاءً دبلوماسيًا لها. فالهجوم على الدوحة، وهي عاصمة تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، يعني أن نتنياهو لم يعد يضع أي اعتبار للتوازنات المعقدة التي يقوم عليها الأمن الإقليمي.
إن استمرار هذا النهج سيدفع المنطقة إلى سيناريوهات انفلات أمني، قد تشمل تهديدات لإمدادات الطاقة من الخليج، وتعطيل خطوط الملاحة في البحر الأحمر والخليج العربي، وهو ما سيصيب المصالح الأمريكية والأوروبية في مقتل. وهنا يصبح "التبجح الإسرائيلي" ليس فقط تحديًا للعرب، بل مقامرة غير محسوبة ضد الغرب نفسه.
تفسير هذا السلوك المتغطرس يرتبط بالوضع الداخلي في إسرائيل. فنتنياهو يواجه أزمات سياسية خانقة، وضغوطًا داخلية متصاعدة بسبب الحرب في غزة، وفشل الحكومة في تحقيق أهدافها العسكرية والسياسية. لذلك يسعى إلى تصدير الأزمة للخارج عبر توسيع ساحة المواجهة، وتحويل أنظار الداخل الإسرائيلي عن الإخفاقات إلى مشاهد استعراضية من "القوة" خارج الحدود.
لكن هذه السياسة، القائمة على الهروب إلى الأمام، قد تنقلب على إسرائيل نفسها، إذ ستؤدي إلى مزيد من العزلة الدولية، وإلى تقوية جبهة الرفض العربي والإقليمي لسلوكها.
نحو مواجهة عربية موحدة
الهجوم الإسرائيلي على قطر يجب أن يكون جرس إنذار للأمة العربية بأكملها. فالمساس بسيادة أي دولة عربية، أياً كانت، يمثل مساسًا بالجميع. من هنا، جاءت الدعوات المصرية المتكررة إلى تعزيز وحدة الصف العربي، باعتبارها الضمانة الوحيدة لردع إسرائيل ومنعها من الاستمرار في سياساتها الاستفزازية.
إن التضامن المصري مع قطر في هذا الظرف الدقيق يعكس إدراكًا عميقًا بأن التحديات الأمنية الراهنة لا يمكن مواجهتها إلا بمنظور جماعي، يقوم على التنسيق السياسي والعسكري والدبلوماسي بين الدول العربية.
فالهجوم على الدوحة ليس مجرد حلقة في سلسلة العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، بل هو تحول نوعي يهدد بتغيير قواعد اللعبة في المنطقة. إنه إعلان صريح من نتنياهو بأن إسرائيل لم تعد تعترف بأي خطوط حمراء، وأنها مستعدة لتجاوز حدودها والاعتداء على أي دولة عربية تحت أي ذريعة.
لكن ما يغيب عن حسابات هذا التبجح أن المنطقة اليوم أكثر وعيًا بخطورة السياسات الإسرائيلية، وأن التحذيرات المصرية تمثل بوصلة للعرب وللمجتمع الدولي معًا. فإذا لم يتحرك العالم لردع إسرائيل ومحاسبتها، فإن الشرق الأوسط سيدخل مرحلة من الانفجار الشامل الذي لن يستثني أحدًا، لا العرب ولا الغرب.