لا دولة في عقل الإخوان

السبت، 27 سبتمبر 2025 09:30 م
لا دولة في عقل الإخوان
محمد الشرقاوي

الجماعة الإرهابية لا تعترف بـ"الدولة الوطنية" بل إقامة "خلافة" عابرة للبلاد تعتبر الوطن عائق أمام السلطة المطلقة

الاختراق والخلايا السرية واللجان النوعية المسلحة.. ثالوث "الإرهابيين" للهدم والتغلغل في مفاصل الدولة الحيوية

سيد قطب صاغ مفاهيم فكرية جعلت الدستور والمؤسسات والقانون أشكالًا ناقصة لا تستحق الولاء

أحفاد البنا تبنوا سياسة الأرض المحروقة وصنفوا مصر "غنيمة مفقودة" وانتهجوا التحريض والتشكيك ونشر الأكاذيب لضرب ثقة الشعب في مؤسساته

 

لماذا ترفض جماعة الإخوان الإرهابية فكرة الدولة الوطنية؟.. سؤال يطرح نفسه كلما رجعنا لتاريخ هذه الجماعة الممتد منذ تأسيسها سنة 1928 على يد حسن البنا.. الحقيقة أن تلك الجماعة لم تولد كحركة سياسية عادية، ولا كتيار إصلاحي داخل المجتمع، بل نشأت بمشروع أكبر من حدود الوطن، مشروع هدفه إقامة "خلافة" عابرة للبلاد - غير "خلافة النبوة" - تعتبر أن فكرة الوطن عائق أمام سلطتها المطلقة.

الدولة الوطنية – بمؤسساتها وحدودها وقوانينها – تمثل بالنسبة للإخوان حاجزًا يمنعهم من السيطرة الكاملة، لذلك لم يعترفوا يومًا بها كإطار شرعي، بل سعوا دائمًا لاختراقها وإضعافها، باعتبار أنها "حفنة تراب".

ومنذ أربعينيات القرن الماضي، حاولت الجماعة مراراً بناء تنظيم سري أشبه بجيش موازٍ داخل الدولة، نفذ اغتيالات وتآمر على مؤسساتها، ومع تعاقب الأجيال، لم يختلف النهج: استغلال الدين لتقسيم المجتمع، ومحاولات مستمرة لفرض مشروعهم على حساب الوطن.

وعندما وصلت هذه الجماعة إلى الحكم بعد ثورة 25 يناير 2011، انكشف وجهها الحقيقي: فلم تهتم ببناء دولة، ولا بخدمة شعب، بل انشغلت بتفصيل دستور على مقاسها، وتمادت لمحاولة السيطرة على الجيش والقضاء والإعلام؛ ولكنها فشلت سريعًا، وخرج الشعب ضدها في 30 يونيو 2013، ليحطم مشروعها في أكبر اختبار عملي.

إذن فالمسألة واضحة: جماعة الإخوان الإرهابية لا تؤمن بالدولة الوطنية، لأنها ببساطة تناقض وجودهم، فالوطن بالنسبة لهم مجرد محطة مؤقتة، بينما التنظيم هو الأساس، والسؤال الذي سنحاول الإجابة عليه: لماذا يصر الإخوان على هدم فكرة الدولة؟ وما الذي فعلوه بالفعل لإسقاط مصر وغيرها من الدول العربية؟

 

رؤية أكبر من حدود الدولة

اتخذت جماعة الإخوان الإرهابية منذ نشأتها عام 1928، مسارًا فكريًا واضحًا: رؤية أكبر من حدود الدولة، وهي رؤية صاغها حسن البنا في خطاباته، ضمن فكرة أن الانتماء الحقيقي هو للأمة الإسلامية، لا للجغرافيا أو للحدود السياسية، وهذه الرؤية لا تكتفي بالكلام عن الدين كقيمة روحية، بل تصوغ الدين كإطار سياسي بديل، يضع مصلحة التنظيم فوق مصلحة الوطن.

سيد قطب، اللاحق في مسيرة الجماعة كمفكر مرجعي ومُنظر فكري لإرهابها، صاغ مفاهيم فكرية زوّدت الحشد بقراءة أكثر تطرفًا عن السلطة والحكم، فظهرت في كتاباته فكرة أن أي نظام لا يحكم بما يفسرونه هم للشريعة هو "جاهلي" ويحتاج إلى تصحيح جذري، وبهذه اللغة يصبح الدستور والمؤسسات والقانون أشكالًا ناقصة لا تستحق الولاء الكامل، لأن الولاء الصحيح – من وجهة نظرهم – هو للمرشد وللمنهج التنظيمي.

النتيجة العملية من هذا البناء الفكري كانت واضحة: الجماعة لم تعلّم أعضاءها حب الوطن كمفهوم مدني وشامل، بل زرعت لهم ولاءً يتجه أولًا للتنظيم، ففي برامجها الدعوية والتكوينية، وفي الكشوف والأنشطة، كان دائما هناك توجيه: "الأولوية للجماعة"؛ والعقيدة -وفق المفهوم - تُقدَّم على كل رابط آخر.. وشعارهم الذي يتكرر في المحافل التنظيمية لا يترك مساحة لكلمة "الوطن" بمعناها المدني، بل يضع الدين والتنظيم في مقدمة المعادلة.

هذا التقاطع بين أيديولوجيا رافضة للدولة، وبين تدريب أجيال يضع التنظيم فوق كل رابط وطني، خلق نقطة انتقال طبيعية من اللغة إلى السلوك؛ فالأفكار التي تَنتقد الدساتير والقوانين وتعتبر الحدود "صُنعًا بشريًا" لم تبقَ حبيسة الخطاب، بل تحولت بسرعة إلى ممارسات هدفها تجاوز مؤسسات الدولة لا العمل ضمنها، وفي الواقع، حين تُعلِّم تنظيمك أن الولاء الأول ليس للوطن إنما له، وتُبيح تقويض ما تراه عقبة أمام مشروعك، يصبح سلوك الاختراق وبناء أطر موازية تقريبًا خيارًا منطقيًا، منطقياً بالنسبة لهم.

هنا، وبلا فجوة زمنية، تبدأ تفاصيل تلك الممارسات: الشبكات السرية، محاولات التغلغل في مؤسسات الأمن والتعليم والإدارة، بناء هياكل بديلة داخل المجتمع نفسه، فالفكرة النظرية تحولت إلى أدوات عملية للتأثير والسيطرة.

 

النموذج التطبيقي لهدم الدولة

لم تكن المعضلة مع جماعة الإخوان الإرهابية محصورة في مواقف نظرية أو نصوص فكرية، بل تكمن في أن تلك المواقف سرعان ما تحولت إلى نهج عملي منظّم، ولم يبق رفض الدولة الوطنية والولاء للمؤسسات مجرد شعار؛ بل صار منهج عمل نفذته الجماعة داخل المجتمع ومؤسساته.

أول أدوات هذا النهج كانت استراتيجية "الاختراق"، حيث اعتمدت الجماعة على التغلغل في مفاصل الدولة الحيوية: التعليم، والإدارة، والإعلام، وحتى أجهزة الأمن، وذلك بدلاً من الانخراط في العمل المؤسسي لبناء الدولة، حيث كانت هناك جهود ممنهجة لتجنيد عناصر داخل هذه المؤسسات، وتثبيت حضور شبكات إخوانية داخل الجامعات والهيئات المهنية، بحيث تُصبح قرارات ومواقف بعض هذه المؤسسات عرضة لتأثير ولاءات تنظيمية لا ولاءات وطنية.

موازاةً مع ذلك، أنشأت الجماعة هياكل موازية تعمل ضمن المجتمع لكن خارج نطاق الرقابة الرسمية: خلايا سرية، لجان نوعية، مؤسسات خيرية وشركات تُستخدم في بعض الأحيان كغطاء لأنشطة تنظيمية أوسع، وهذه البنيات منحتها قدرة على المناورة خارج القواعد العلنية، واستمرار نشاطها حتى عندما تواجه ضغوطًا أو منعًا من الدولة.

الخطاب الديني كان سلاحًا مكملًا لهذه الأدوات، فاستُخدمت المراجع الدينية لتأطير الصراع السياسي على أنه صراع وجودي بين "الحق" و"الباطل"، مما سهل شيطنة الخصوم وتقويض ثقة الجمهور في المؤسسات التي تُعارض أجندتهم، وقد أدى هذا الخطاب إلى تفتيت روابط المواطنة المشتركة وإثارة انقسامات اجتماعية وسياسية استغلتها الجماعة لتوسيع نفوذها.

وفي أحيان كثيرة، لم تكتفِ الجماعة بالأساليب السياسية والسرية فحسب؛ بل لجأت مجموعات تابعة أو موالية لها إلى العنف حين شعرت أن المسارات السلمية لا تحقق أهدافها، وهو ما حول الصراع من تنافس سياسي إلى مواجهة أمنية مفتوحة تُضعف الدولة وتستنزف مؤسساتها.

النتيجة العملية كانت تآكل ثقة الجمهور في أجهزة الدولة، فعندما تتداخل الولاءات التنظيمية مع منطق العمل المؤسسي، وتتكرر محاولات الاختراق أو تعطيل الأداء، يتراجع مصداقية المؤسسات وتضعف قدرتها على فرض القانون وصيانة الأمن العام، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية: ليس مجرد رفض نظري لمفهوم الدولة الوطنية، بل إضعاف عملي لقدرتها على العمل وحماية المجتمع.

وبما أن هذه الوسائل طُبقت بوضوح في ظروف ومراحل محددة، فإن تحليل تجارب محددة - وعلى رأسها التجربة المصرية في العقد الفاصل بين ثورة يناير و30 يونيو - يتيح رؤية أوضح لكيف تحولت النظرية إلى فعل، وللتأثير المباشر لهذه الممارسات على مسار الدولة والمجتمع.

 

من التمكين إلى المواجهة

كانت مصر المسرح الأبرز الذي كشفت فيه جماعة الإخوان الإرهابية عن طبيعة مشروعها الحقيقي، فهي بلد المنشأ، فبعد ثورة يناير 2011، استثمرت الجماعة حالة السيولة السياسية لتتقدم نحو السلطة، مقدمة نفسها كقوة قادرة على ملء الفراغ وضمان الاستقرار، وبالفعل، أوصلتها صناديق الانتخابات إلى البرلمان ثم الرئاسة، لكن الأشهر القليلة التي أعقبت ذلك أظهرت سريعًا كيف أن المشروع الإخواني لا يلتقي مع فكرة الدولة الوطنية الحديثة.

ومنذ اللحظة الأولى، بدا أن الجماعة تتعامل مع مؤسسات الدولة باعتبارها غنيمة يجب السيطرة عليها، لا كجهاز وطني محايد يُفترض الحفاظ على استقلاله، وبدأت سياسة "الأخونة" تتسع: تعيينات في مواقع حساسة، ومحاولات لإحكام النفوذ على الإعلام الرسمي والخاص، وضغوط مستمرة لإعادة صياغة المناهج والخطاب الديني بما يخدم مشروعها.

لكن الخلاف الأعمق ظهر في طريقة إدارة الحكم، فبدلًا من بناء توافق وطني واسع، مضت الجماعة في مسار أحادي يضع التنظيم فوق الجميع، ويقصي القوى السياسية الأخرى، وهذا النهج سرعان ما ولّد أزمات متلاحقة: احتجاجات في الشارع، وصدام مع القضاء، وتوتر مع الإعلام، وشعور متزايد لدى قطاعات واسعة من الشعب بأن الدولة تُختطف لصالح مشروع ضيق الأفق.

ومع تفاقم الأزمة، لم تتردد الجماعة في استدعاء خطاب تعبوي يصوّر المعارضين على أنهم "أعداء الشرعية"، بل شجعت بعض قواعدها على المواجهة المباشرة، وهو ما دفع نحو حالة استقطاب حاد هدد السلم الأهلي، وبحلول منتصف 2013، كان واضحًا أن التجربة وصلت إلى طريق مسدود: فقدت الجماعة ثقة الأغلبية، وواجهت حراكًا شعبيًا غير مسبوق طالب بإنهاء حكمها، وهو ما تحقق في 30 يونيو.

لكن سقوط حكم الإخوان لم يكن نهاية القصة، بل بداية مرحلة جديدة كشفت الوجه الأكثر صدامية للتنظيم؛ إذ انتقلت بعض عناصره إلى نهج العنف المنظم، عبر استهداف مؤسسات الدولة وضرب الاستقرار الداخلي، وهو ما دفع المصريون ثمنه.

وبهذا المعنى، أثبتت التجربة المصرية ما سبق أن أشرنا إليه: رفض الجماعة لمفهوم الدولة الوطنية لم يكن مجرد نظرية أو ممارسة جزئية، بل مشروع شامل لا يتورع عن تقويض الدولة ذاتها إذا تعارضت مع أهدافه.

وتمنح هذه التجربة درسًا مهمًا: أن التحدي الذي تمثله جماعة الإخوان ليس سياسيًا عابرًا يمكن احتواؤه بتسويات قصيرة المدى، بل هو تحدٍ بنيوي يمس طبيعة الدولة الحديثة ومرتكزات الشرعية الوطنية، وهذا ما يجعل فهم المشروع الإخواني ضرورة لفهم كيف تتعامل المجتمعات العربية مع تهديد يختلط فيه البعد الفكري بالممارسة العملية، وينتهي - كما رأينا في مصر - إلى مواجهة مفتوحة بين الدولة الوطنية وتنظيم عابر للحدود.

 

ما بعد السقوط.. مرحلة صناعة الفوضى

لم يكن سقوط حكم جماعة الإخوان الإرهابية في مصر في 30 يونيو 2013 حدثًا عابرًا أو مجرد إخفاق سياسي في إدارة دولة بحجم مصر، بل شكّل لحظة كاشفة لطبيعة الجماعة وأدواتها وأساليبها في التعامل مع مفهوم الدولة الوطنية، فبعد أن لفظهم الشارع المصري عبر أكبر حشد شعبي في التاريخ الحديث، انكشفت حقيقة المشروع الذي كانوا يخططون له؛ مشروع قائم على تفكيك مؤسسات الدولة، وإحلال الولاء للتنظيم محل الولاء للوطن.

ما يلفت الانتباه هنا هو رد فعل الجماعة بعد سقوطها، فبدلًا من مراجعة النفس أو الاعتراف بفشل تجربتهم في الحكم، لجأوا إلى تبني إستراتيجية "الأرض المحروقة"، وظهرت دعوات صريحة لإسقاط الدولة بكل ما تحمله من رمزية، واعتبار أن أي نجاح للسلطة الجديدة هو هزيمة للتنظيم.

لقد تعاملت الجماعة مع مصر وكأنها "غنيمة مفقودة" لا وطنًا يجب الحفاظ على استقراره، فكل خطابهم الإعلامي في تلك المرحلة كان منصبًا على التحريض والتشكيك ونشر الأكاذيب، في الداخل والخارج، بهدف عزل مصر دوليًا وضرب ثقة الشعب في مؤسساته.

وكان من بين أخطر مخرجات تلك المرحلة تأسيس ما عُرف بـ "اللجان النوعية"، وهي تشكيلات مسلحة تابعة للتنظيم، تولت تنفيذ عمليات إرهابية ضد الجيش والشرطة والقضاء وحتى ضد المدنيين، وبرزت أسماء مثل "حسم" و"لواء الثورة"، وهي مجموعات وُلدت من رحم الإخوان، وتبنت أسلوب الاغتيالات النوعية كأداة رئيسية لإحداث حالة رعب وضغط سياسي، وهنا لم يعد الحديث عن خلاف سياسي، بل عن مشروع منظم لإشاعة الفوضى وإضعاف مؤسسات الدولة.

ومثّل اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات في يونيو 2015 ذروة هذا النهج، حيث كشف عن انتقال الجماعة من خانة المعارضة السياسية إلى خانة العنف الممنهج ضد رموز الدولة، كما استهدفت تلك اللجان كمائن للشرطة في القاهرة والجيزة، وحاولت استهداف مسؤولين عسكريين وأمنيين بارزين، ما يعكس رغبة التنظيم في شل مؤسسات الدولة عبر رأسها التنفيذي.

ولم يكن العنف المسلح وحده هو أداة الجماعة، فقد وظفت الإعلام والمنصات الإلكترونية لتأجيج الغضب ونشر الفوضى النفسية بين المصريين، وركزت على بث روايات مضادة لكل إنجاز اقتصادي أو مشروع قومي، بهدف ضرب الروح المعنوية وخلق حالة من الشك في قدرة الدولة على الاستمرار، ويمكن القول إنهم مارسوا ما يشبه "حربًا نفسية" موازية للعمل المسلح.

إلى جانب ذلك، سعت الجماعة لإحياء روابطها مع تنظيمات أخرى عابرة للحدود مثل القاعدة وداعش في سيناء، وهو ما مثّل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، ورغم إنكار الإخوان أي علاقة مباشرة، إلا أن تقارير الأجهزة الأمنية، إلى جانب الاعترافات الموثقة في محاكمات لاحقة، أثبتت وجود تنسيق لوجستي وفكري على الأقل بين الطرفين.

وبالتالي فإن ما جرى بعد 2013 كشف بصورة جلية أن الجماعة لم يكن يعنيها الوطن، بل التنظيم، فلقد رفضوا أي اندماج في الحياة السياسية الطبيعية، أو قبول بدور المعارضة السلمية، واعتبروا أن الشرعية الوحيدة هي "شرعية المرشد"، وبذلك، اصطدموا بشكل مباشر مع فكرة الدولة الوطنية التي تقوم على عقد اجتماعي جامع، وليس على بيعة لتنظيم سري.

كما أن خطابهم الخارجي، خصوصًا في أوروبا، ارتكز على تدويل الأزمة المصرية وتشويه صورة مؤسسات الدولة أمام العالم، في محاولة لانتزاع شرعية دولية موازية، وهو سلوك يعكس إصرار الجماعة على تقويض الدولة من الداخل عبر العنف، ومن الخارج عبر التحريض الدبلوماسي والإعلامي.

وهنا يمكن القول إن مرحلة ما بعد السقوط أثبتت أن جماعة الإخوان الإرهابية لم تكن يومًا معنية ببناء الدولة الوطنية أو دعم استقرارها، بل على العكس، كشفت عن وجهها الحقيقي كمشروع عابر للأوطان، لا يرى في الدولة سوى أداة ظرفية للتمكين.

وحين سقطت تلك الأداة، انتقلوا إلى استراتيجية إسقاط الدولة ذاتها، ولو كان الثمن دماء المصريين وفوضى عارمة. لقد تحولت مصر بالنسبة للجماعة إلى "غنيمة مفقودة" يجب استعادتها بأي ثمن، ولو كان الثمن هو تمزيق المجتمع والدخول في دوامة عنف بلا نهاية.

وهكذا، كان مسار الاغتيالات، وتأسيس اللجان النوعية، ونشر الفوضى الإعلامية، جزءًا من خطة أوسع لإعادة مصر إلى حالة عدم الاستقرار، غير أن الدولة المصرية، بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضائية، واجهت تلك الموجة بحسم، وأجهضت محاولة تحويل مصر إلى دولة فاشلة.

 

الدولة الوطنية في مواجهة مشروع الإخوان

يظهر من خلال تتبع مسار جماعة الإخوان الإرهابية أن الصدام مع الدولة الوطنية لم يكن مجرد نتيجة للظروف السياسية أو الأخطاء التكتيكية، بل هو صدام بنيوي يرتبط بجوهر الفكرة التي تأسست عليها الجماعة، فالإخوان لا يرون في الوطن إلا حدودًا مصطنعة تعرقل تمدد مشروعهم الأممي، وبالتالي فإن قيام دولة قوية بمؤسساتها الصلبة يضع أمامهم حاجزًا يصعب تجاوزه، فالدولة الوطنية بالنسبة لهم ليست كيانًا جامعًا للهوية والشرعية الشعبية، وإنما خصم مباشر يحول دون فرض منطق التنظيم.

وعكست التجربة المصرية في العقد الماضي هذا الصراع بوضوح، حين وصل الإخوان إلى الحكم، اعتقدوا أن السيطرة على السلطة كافية لتفكيك الدولة وإعادة بنائها على أسس الولاء للجماعة. غير أن الواقع أثبت عكس ذلك؛ فالمؤسسات العريقة، وعلى رأسها الجيش والقضاء والإدارة البيروقراطية، استعادت زمام المبادرة، والشعب خرج في 30 يونيو ليعلن أن شرعية الوطن تتفوق على شرعية التنظيم.

ولم تكن هذه اللحظة مجرد إطاحة بحكم سياسي، بل مثلت نزعًا للغطاء الأيديولوجي الذي حاولت الجماعة فرضه على الدولة والمجتمع، وأثبتت أن مصر كدولة وطنية أعمق جذورًا وأقوى من أي مشروع فوقي عابر.

لقد حاول الإخوان بعد سقوطهم البحث عن بديل للشرعية المفقودة، فالتفتوا إلى الخارج طلبًا لدعم دولي يعوضهم عن الغطاء الشعبي، وحاولوا تصوير الأزمة المصرية باعتبارها صراعًا على الديمقراطية، بينما كانت حقيقتها صراعًا على هوية الدولة ذاتها.

ورغم أنهم وجدوا بعض الحاضنات الإقليمية، فإن معظم القوى الدولية الكبرى باتت أكثر إدراكًا لمخاطر مشروعهم، بعد أن عاينت آثاره في دول أخرى غرقت في الفوضى، وهذه العزلة الدولية مثلت ضربة إضافية للمشروع الإخواني، إذ كشفت أن الدولة الوطنية ليست فقط مؤسسات داخلية، بل أيضًا شبكة اعتراف خارجي يصعب انتزاعها.

ومع ذلك، لم تتوقف الجماعة عن محاولاتها لإعادة إنتاج نفسها عبر أدوات أخرى، فمن الإعلام الخارجي الموجه إلى منصات التواصل، ظل خطابها قائمًا على التشكيك في قدرة الدولة على الاستمرار، وعلى بث السخط بين المواطنين.

وفي الداخل، حاولت عبر ما تبقى من قواعدها التنظيمية أن تنشر الفوضى وأن تحيي حلم العودة بأي وسيلة، حتى لو كان الثمن دماء المصريين، لكن تلك المحاولات جميعها فشلت أمام صلابة المؤسسات وإصرار المجتمع على حماية الدولة من الانزلاق إلى مصير يشبه ما حدث في سوريا أو ليبيا، ووعي المصريين.

المعركة إذن لم تكن مجرد مواجهة أمنية أو سياسية، بل صراع وجودي بين من يؤمن بفكرة الوطن كإطار للهوية الجماعية والمصلحة العامة، وبين من يرى أن التنظيم هو المرجعية الوحيدة، وأن الدولة الوطنية مجرد أداة مؤقتة في رحلة التمكين، وبالرغم من الهزائم التي مُني بها الإخوان، تبقى أفكارهم حاضرة في بعض الدوائر والمجتمعات، ما يعني أن المواجهة ليست مغلقة أو منتهية، بل تتطلب جهدًا مستمرًا على مستوى الهوية والتعليم والثقافة والتنمية، حتى لا يجد خطابهم بيئة قابلة للاختراق من جديد.

وخلاصة الأمر أن الدولة الوطنية أثبتت أنها الإطار الأقدر على حماية المجتمعات من مشاريع الفوضى والتفتيت، وأن أي تنظيم عابر للحدود لا يعترف بالوطن سرعان ما ينكشف في لحظة اختبار حقيقية، فالوطنية ليست شعارًا، بل عقد اجتماعي ومؤسسات راسخة وشرعية شعبية لا يمكن استبدالها بشرعية المرشد أو الجماعة.

ولعل التجربة المصرية تقدم أوضح الأدلة: حين توحد الشعب مع مؤسساته، انهارت أوهام التمكين، وبقيت الدولة صامدة، لتؤكد أن الدفاع عن الوطن ليس خيارًا سياسيًا، بل قدر وجودي يحدد مستقبل الأمة بأسرها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة