ذكرى رحيل بيجوفيتش.. وبقاء المعنى
الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025 01:01 م
عبد الحليم محمود
في مستهل شهر أكتوبر تهلّ علينا ذكرى وفاة علي عزت بيجوفيتش، المسلم المعتدل الذي جمع بين الفكر والسياسة والتجربة الإنسانية العميقة. في زنزانة فوشا، حيث السقف المنخفض والليل الطويل، لم يجد سوى الورق ليواسيه، والكلمات لتمنحه حرية بديلة. كتب رسائل إلى أبنائه، ودوّن خواطره في كتابة "هروبي إلى الحرية"، ليؤكد أن الجسد قد يُسجن، لكن الفكرة لا تُحبس. لم يكن صموده في قدرته على مواجهة السجّان فحسب، بل في حفاظه على نقاء القلب، وإيمانه بأن الحرية تبدأ من الداخل.
في عام 1983 حكم عليه النظام اليوغسلافي بالسجن أربعة عشر عامًا بسبب أفكاره، فقضى خمسة أعوام في عزلة قاسية، بينما آثر كثيرون الصمت، وتجاهلت قوى كبرى ما يعانيه شعبه. في تلك السنوات تجرّع مرارة الخذلان، لكنه حوّل محنته إلى مدرسة في التأمّل والصبر. كتب يومًا: «عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر بالحرية، وإنما بالصحة». كلمات بسيطة، لكنها تلخّص فلسفة رجل أدرك أن معارك الحرية تُخاض أولًا في الداخل، في مقاومة اليأس والانكسار.
لقد تعلّم أن القوة الحقيقية ليست في كثرة الأصدقاء وقت النصر، بل في ثبات الإنسان حين ينفضّ الجميع. لم يخرج من السجن ناقمًا، بل أكثر إنسانية، يرى في الآخر المختلف قيمة تستحق الاحترام. كان يقول: «أقدّر المسيحي الجيد أكثر من المسلم السيئ»، وهي عبارة تلخّص رؤيته بأن الدين ليس بطاقة هوية، بل سلوك وضمير. وحين خرج إلى شعبه في زمن الحرب، حمل أثقل الأعباء، وقاد البوسنة نحو الاستقلال، متمسكًا بالكرامة رغم قسوة الواقع وتخلّي الكثيرين.
رحل الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش في التاسع عشر من أكتوبر عام 2003، لكن كلماته بقيت تضيء الطريق. لم يترك سيرة سياسي فحسب، بل ميراثًا إنسانيًا وفكريًا يذكّرنا بأن أعظم الانتصارات تولد من قلب الهزيمة. إن ذكرى رحيله دعوة لأن ندرك أن الوحدة قد تكون أحيانًا أثمن من الجموع، وأن الحرية قد تبدأ من سطر على ورقة في زنزانة معتمة. في النهاية، ليس السؤال: من الذي تخلى عنك؟ بل: ماذا تبقّى منك حين يتخلى الجميع؟ وفي هذه الإجابة تكمن عظمة الرجل، وعزاء كل من سار وحيدًا في ليل طويل.