العقيدة الإخوانية الفاسدة.. الجماعة الإرهابية استخدمت رسائل البنا لصناعة "الدين البديل"

السبت، 04 أكتوبر 2025 10:00 م
العقيدة الإخوانية الفاسدة.. الجماعة الإرهابية استخدمت رسائل البنا لصناعة "الدين البديل"
محمد الشرقاوي

الحفظ والتقديس وإعادة التأويل لخدمة الظرف السياسي.. ثالوث الولاء المقدس لأعضاء الإخوان

التنظيم أصبح "وسيط حصري" لفهم النصوص الدينية.. ووضع كتب قطب والقرضاوى في مكانة موازية للنصوص المقدسة

البيعة تحولت إلى تجريد الإنسان من عقله ووضعه داخل منظومة فكرية مغلقة لا يُسمح بتجاوزها وأمام سلطة قيادية مقدسة

القيادى الإخوانى صبحى صالح كشف المخطط بدعائه علناً "اللهم أمتنا على دين الإخوان"

حين يتحوّل الدعاء إلى إعلان عقيدة بديلة، ندرك أن الأمر لم يعد مجرد انحراف لغوي عابر، عبارة صبحي صالح الشهيرة: «اللهم أمتنا على دين الإخوان» لم تكن زلة لسان، بل انعكاسًا لعقلية منحرفة؛ اختزلت الإسلام في هوية تنظيم، وحوّلت الولاء للجماعة إلى معيار الإيمان، من هنا تبدأ الحكاية: كيف غدت جماعة تأسست على فكرة الإصلاح الديني حاملةً لدينٍ خاص بها، يعلو على الدين الجامع للمسلمين جميعًا.

منذ حسن البنا، كان خطاب "الإسلام الشامل" يقدَّم كصيغة جامعة بين العبادة والسياسة، بين الروح والسلطة، لكن مع الزمن، تسرّبت الفكرة من شمول الإسلام إلى شمول الجماعة، فأصبح التنظيم هو الوسيط الحصري لفهم النصوص وتطبيقها، وهنا يتعدى الخلاف مع الإخوان الإرهابية مجرد جدل سياسي أو رؤى متباينة في إدارة الدولة، بل صراع على تعريف الدين نفسه: من هو المسلم الحق؟ ومن يقف خارجه؟

وجاءت تجربة ما بعد 2011 لتضع الخطاب الإخواني في اختبارٍ قاسٍ: من "غزوة الصناديق" التي صُوِّر فيها الاستفتاء كمعركة مقدّسة، إلى دستور صُمِّم ليعكس هوية الجماعة أكثر مما يعكس تنوّع المجتمع، وعلى الأرض، تهاوت الشعارات سريعًا أمام تعقيدات الحكم، لكن بقي أثرها الفكري أثقل من سقوطهم السياسي: خطاب مؤدلج لا يرى في الدين إلا انعكاس الجماعة، ولا في الجماعة إلا ظلّ الدين.

إن ما انكشف في تلك اللحظة لا يخص الإخوان وحدهم، بل يخص المجتمع بأسره: كيف يتحوّل خطاب ديني يَعِد بالوحدة إلى أداة للفرقة، وكيف يصبح الوعد بالإصلاح غطاءً لاحتكار الحقيقة؟ هنا تتجلّى خطورة "دين الإخوان" كعبء فكري واجتماعي يتجاوز حدود السياسة إلى عمق الهوية نفسها.

 

الأدبيات كـ«دين بديل»

من يتتبع خطابات جماعة الإخوان الإرهابية منذ سبعينيات القرن الماضي، يلحظ كيف تحولت أدبياتها من اجتهادات بشرية يفترض أن تكون مفتوحة للنقاش، إلى منظومة مغلقة تملك سلطة شبه مطلقة على الأتباع، وبالتالي لم تعد كتب سيد قطب أو يوسف القرضاوي مجرد مرجع فكري يمكن أخذ ما يفيد منه وترك ما عداه، بل صارت "نصًا مُلزِمًا" أقرب إلى عقيدة إيمانية تُحدِّد الانتماء وتضبط السلوك، حتى بدا الأمر وكأن الجماعة اخترعت دينًا خاصًا بها: الإسلام كما تراه هي، لا كما هو في تنوعه الواسع.

هذا التحول منح الأدبيات مكانة موازية للنصوص المقدسة، وجعل أي نقاش حولها يُنظر إليه كمساس بالعقيدة، وبذلك، بدلاً من أن تفتح مراجعات الإخوان باب التفكير النقدي، تحولت إلى سور عازل يحول دون مساءلة المسار السياسي أو مراجعة الأخطاء، فالخطاب المجرَّد من النقد الداخلي هو الذي يفسر كيف أُسبغت القداسة على عبارات من قبيل «الإسلام هو الحل» أو «طاعة القيادة من طاعة الله»، وكيف تحوّلت إلى شعارات إيمانية تعلو على النقاش السياسي العقلاني.

ولعل خطورة ما يمكن تسميته بـ«الدين البديل» عند الإخوان، أنه أفرغ النصوص من وظيفتها التنويرية وألبسها ثوب الطقس، فقراءة مؤلفات قطب أو المودودي أو غيرهما لم تعد تثقيفًا سياسيًا، بل ممارسة طقسية تعيد إنتاج الولاء للجماعة، وتكرّس قناعة أن الطريق واحد والحق محصور في التنظيم، فكل جيل جديد من الأعضاء يدخل هذه الدائرة يكرر الدورة نفسها: الحفظ، التقديس، ثم إعادة التأويل لخدمة الظرف السياسي.

وبهذه الطريقة، لم تكن أدبيات الإخوان أداة لتجديد الفكر أو تطوير التجربة السياسية، بل صارت عبئًا يمنع نشوء عقل سياسي براغماتي داخل التنظيم، فالنصوص القديمة لا تُختبَر أمام الواقع، بل يُختبَر الواقع ذاته في ضوء النصوص، وإذا عارض الواقع ما تقوله الأدبيات، يُعاد تفسيره باعتباره مؤامرة أو ابتلاء. وهكذا عُطّل أي أفق إصلاحي حقيقي، وتحوّل النص التنظيمي إلى ما يشبه «المرجع النهائي» الذي لا يقبل المراجعة.

هذا الانغلاق جعل الإخوان أسرى ماضٍ يجرّهم باستمرار إلى الوراء، فبدلاً من أن تكون الأدبيات نقطة انطلاق لبناء مشروع وطني متماسك، تحولت إلى عبء يعيد إنتاج الأزمة ذاتها، لذلك فإن فهم تجربة الإخوان لا يكتمل إلا بإدراك أن أزمتهم ليست فقط في السياسة، بل في العقل الأدبي الذي صنعوه لأنفسهم، ورفعوه إلى مقام الدين.

رسائل البنا والأصول العشرون لاحتكار الإسلام

لم يكن حسن البنا مجرد مؤسس لجماعة سياسية تسعى للإصلاح الاجتماعي، بل مهندسًا لبناء فكري مغلق أراد له أن يكون بديلاً عن المرجعيات الكبرى للدين ذاته، ففي «الرسائل» و«الأصول العشرين» صاغ البنا ما يمكن وصفه بـ«الكتاب المقدس للجماعة»، وهي نصوص لا تُطرح للنقاش أو المراجعة، بل تُتلى وتُحفَظ وتُدرَّس كما لو كانت وحيًا منزلًا، وهنا يتجاوز المشروع الإخواني فكرة «الحركة السياسية ذات الخلفية الإسلامية» ليؤسس لنمط عقائدي موازٍ، يَختزل الإسلام في رؤية واحدة، ويربط النجاة والخلاص بالانتماء إلى التنظيم.

ولا تقدم هذه النصوص فقط تفسيرًا خاصًا للإسلام، بل تعيد تعريفه من الأساس، فالإسلام –كما يراه البنا– ليس دينًا ينفتح على تعدد الاجتهادات وتاريخ من التنوع الفقهي والسياسي، بل منظومة شاملة لا تكتمل إلا عبر الجماعة التي «تفهمه» و«تطبقه»، ومن هنا نشأت فكرة «الفرقة الناجية» في الخطاب الإخواني؛ حيث يتحول التنظيم إلى وعاء الحقيقة المطلقة، ويصبح الخارج عنه إما جاهلاً أو منحرفًا أو ضالًا، وبالتالي فهي آلية تقسيم حادة للمجتمع، تصنع داخلًا «مؤمنًا» وخارجًا «مشكوكًا في إسلامه»، وتضع الجماعة في موضع «الوصي» على الدين والعقيدة.

لكن أخطر ما في هذا البناء هو إدخال «البيعة» في قلب التنظيم، فالبيعة التي كانت في الأصل عقدًا سياسيًا بين الأمة والحاكم، جرى تحويلها إلى التزام شخصي مطلق داخل الجماعة، والعضو لا ينضم فقط، بل «يبايع» مرشده على السمع والطاعة في المنشط والمكره، في الفهم والعمل، في الفكر والسلوك.

وبذلك لا يعود الانتماء خيارًا سياسيًا أو التزامًا تنظيميًا، بل عقدًا وجوديًا يُلغي استقلال الإرادة ويُخضع الضمير الفردي لسلطة المرشد، وهذه البيعة ليست رمزية كما يدّعون، بل جوهر العلاقة بين الفرد والجماعة، وهي التي تضمن «وحدة الصف» عبر تعطيل التفكير النقدي وتحويل الطاعة إلى فضيلة عُليا.

ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه البيعة إلى ما يشبه «التجريد من العقل»، إذ يجد العضو نفسه أمام منظومة فكرية مغلقة لا يُسمح بتجاوزها، وأمام سلطة قيادية يُنظر إليها باعتبارها الأدرى بمصلحة الدين والأمة، وحين يصبح الاعتراض خيانة، والنقد خروجًا عن «الجماعة»، فإننا لا نتحدث عن تنظيم سياسي بل عن «طائفة» تتعامل مع أعضائها كما تتعامل الأديان مع المؤمنين بها، من هنا، يصبح الانفصال عن الجماعة أشبه بالردة الفكرية، ويُعامل الخارج عنها كمنكرٍ للحق.

«الأصول العشرون» نفسها تقدم نموذجًا صريحًا لهذا التحكم في العقول؛ فهي لا تكتفي بوضع خطوط عامة، بل تتدخل في تفاصيل السلوك الفردي والاجتماعي والروحي، وتحدد معايير «الفهم الصحيح» للإسلام، وتُخضع حتى الاجتهاد الفقهي لرأي «الإمام» ونائبه فيما لا نص فيه. والنتيجة أن التنظيم يصبح هو المفسر الوحيد للنص، والحَكم في الخلاف، وصاحب الكلمة الأخيرة في ما يجوز وما لا يجوز. وهذه سمة الطوائف المغلقة التي تحتكر الحقيقة وتُقصي كل ما عداها.

وتزداد خطورة هذه العقيدة حين نلاحظ كيف انعكست على سلوك الجماعة السياسي والاجتماعي. فحين أُجري الاستفتاء الدستوري في مصر عام 2011، تحوّل الحدث السياسي العادي إلى «غزوة الصناديق» كما وصفه قادة الجماعة، في إشارة صريحة إلى أن التصويت لصالح موقفهم ليس مجرد رأي، بل «جهاد» في سبيل الله. هنا تتجلى طبيعة العقل الإخواني: السياسة ليست ساحة تنافس برامج وأفكار، بل ميدان اختبار للإيمان والكفر، والخلاف السياسي ليس اختلافًا مشروعًا بل انحراف عن الدين. هذه اللغة ليست مجرد خطاب تعبوي، بل امتداد مباشر للأدبيات التأسيسية التي جعلت من «الموقف السياسي» معيارًا دينيًا.

وفي ظل هذه الرؤية، لم يكن غريبًا أن ترى الجماعة نفسها «أوصياء» على الأمة. فهم لا يطالبون بالحكم لأنفسهم –كما يقول البنا– إلا إذا لم يجدوا من «يحكم بمنهاج الله»، وهو ما يفتح الباب أمام شرعنة السعي الدائم للسلطة تحت غطاء ديني. ومع أن النص يزعم الزهد في الحكم، إلا أن مضمونه يكرّس فكرة أن الدولة لا شرعية لها إن لم تخضع لمنظور الجماعة، وهنا يتجلى الخطر الأكبر: تحويل الدين إلى أداة للاستيلاء على المجال السياسي، وتقديم الجماعة باعتبارها وحدها المؤهلة لقيادة الأمة.

كما أن هذا الفكر فتح الباب لاحقًا أمام تيارات أكثر تطرفًا داخل الحركة نفسها، فحين جاء سيد قطب، لم يفعل سوى البناء على أسس وضعها البنا، لكنه ذهب بها إلى أقصى مدى، فقسم العالم إلى مجتمع إسلامي وآخر جاهلي، وأعطى «الحاكمية» بعدًا تكفيريًا أكثر حدة، ورغم محاولات بعض قادة الإخوان لاحقًا التبرؤ من التكفير، فإن هذا الفكر لم يكن انحرافًا عن الخط بل امتدادًا طبيعيًا له، نتيجة بناء عقيدة مغلقة تجعل الجماعة مركز الدين.

المؤكد أنه لا يمكن قراءة رسائل البنا والأصول العشرين باعتبارها نصوصًا دعوية بريئة، إنها مشروع شامل لصناعة «دين الجماعة»، دين يفرض وصايته على النص، ويُلغي مساحة الاجتهاد، ويحوّل الانتماء إلى بيعة لا تُنقض، ويضع القيادة في مكانة تعلو فوق النقد والمساءلة، ومَن يتأمل نتائج هذا المشروع في الواقع يدرك أننا لا نتحدث عن «فكر» بل عن «منظومة سيطرة»، تسعى لإعادة تشكيل الإنسان المسلم وفق قوالبها الخاصة، وتحويل الدين من رسالة جامعة إلى أداة استقطاب وإقصاء. إنها، في الجوهر، محاولة لاحتكار الإسلام باسم «الإسلام».

فكر سيد قطب وتكريس القطيعة

إذا كانت أدبيات حسن البنا قد وضعت الأساس لعقيدة مغلقة تحتكر الفهم الصحيح للإسلام، فإن سيد قطب جاء ليُكمل البناء بجرعة أشد راديكالية، جعلت من «الجماعة» مركزًا أوحد للنجاة، ومن المجتمع المحيط «جاهلية» لا بد من مفاصلتها، في كتاباته، خصوصًا «معالم في الطريق»، حيث ارتفعت درجة الاحتكار من ادعاء تمثيل الدين إلى إعلان قطيعة مع المجتمع ذاته، باعتباره خارج دائرة «الحاكمية» ومبتلى بالانحراف، وهنا يتحوّل خطاب الجماعة من الدعوة إلى الإحياء، إلى خطاب يرسّخ الانعزال والتكفير الضمني.

الخطورة أن قطب لم يأتِ من فراغ؛ بل وجد أرضًا ممهدة زرعها البنا، فمفهوم «الفرقة الناجية» و«الطليعة المؤمنة» كان حاضرًا في الرسائل الأولى، لكن قطب أعاد صياغته بمنطق أكثر صدامية، ليصبح الموقف من الدولة والمجتمع هو معيار الإيمان، ومن هنا تشكلت عقلية الانغلاق التي جعلت الجماعة لا ترى في المجتمع محيطًا للتفاعل، بل «خصمًا» أو «ساحة غزو» يجب إعادة أسلمتها من جديد.

وهذا ما يفسر أن كل مراجعات الإخوان لفكر قطب، سواء عبر كتاب «دعاة لا قضاة» أو عبر تصريحات لاحقة لقياداتهم، لم تنجح أبدًا في إلغاء الأثر العميق لفكره، فاللغة القطبية ظلت حاضرة داخل الخطاب، تتسرب في خطب، وكتابات، ومواد تربوية، حتى عندما تُنكر الجماعة ذلك في العلن؛ بل إن كثيرًا من أجيالها اللاحقة تربّت على ظلال قطب أكثر مما تربّت على رسائل البنا، وهو ما جعل التناقض بين القول والواقع علامة مميزة في مسيرة الجماعة.

ويُضاف إلى ذلك أن الفكر القطبي لم يقتصر على التنظير الديني، بل أسس لعقلية «المفاصلة التنظيمية» أيضًا، فالعالم يُقسم بين «داخل» هو الجماعة ومشروعها، و«خارج» هو مجتمع جاهلي، ومن ثم يصبح الانتماء للجماعة أشبه بـ«بيعة» جديدة تُحدد هوية الفرد وشرعيته، وهذه الثنائية عززت الولاء الأعمى للجماعة على حساب أي ولاء آخر، سواء كان وطنيًا أو اجتماعيًا، ورسخت داخل الصفوف قناعة أن كل تضحية أو صدام مبرر طالما يصب في صالح التنظيم.

وانعكس هذا الفكر بوضوح في السلوك السياسي لاحقًا. فخلال تجربة ما بعد 2011، حمل الخطاب القطبي روح الصدام، فرأى في الديمقراطية أداة مرحلية لا غاية، وفي الدولة القائمة مجرد «هياكل جاهلية» يمكن الاستفادة منها مؤقتًا إلى أن يحين وقت التمكين، لذلك لم يكن مفاجئًا أن تتحول العلاقة بين الجماعة ومؤسسات الدولة إلى مواجهة مفتوحة، إذ اصطدم خطاب «الحاكمية» و«التمكين» بالواقع المركب للدولة الحديثة، التي لا يمكن اختزالها في شعارات أيديولوجية.

إلى جانب ذلك، فإن الفكر القطبي رسّخ داخل الجماعة فكرة «المفاصلة الشعورية»؛ أي أن العضو الحق لا يكتفي بالعمل التنظيمي، بل يعيش حالة اغتراب نفسي عن المجتمع، وهذا يعني أن الولاء الكامل للجماعة يقابله شك دائم في المحيط الاجتماعي والسياسي، بما يضمن عزلة الأعضاء عن أي اندماج حقيقي، وبهذا تحوّل خطاب قطب إلى أداة لإعادة إنتاج الطائفية الفكرية داخل التنظيم، ومن ثم تغذية العداء مع الخارج.

الحقيقة، أن أخطر ما تركه الفكر القطبي هو هذا الميراث المستمر من الانغلاق والاصطدام: جماعة ترى في نفسها «الطليعة المؤمنة»، وترى في المجتمع «جاهلية» يجب كسرها، وهو ميراث جعل الأدبيات الإخوانية تتحول من خطاب دعوي إلى مشروع قطيعة دائمة مع المجتمع والدولة، وترك بصمته الثقيلة على كل تجربة سياسية لاحقة للجماعة.

من «الحاكمية» إلى الحكم.. امتحان الواقع في 2011

لم تكن فكرة «الحاكمية» التي صاغها سيد قطب - وتعني لديه نزع الشرعية عن أي نظام حكم وضعي، وتجريد المجتمع من مشروعيته إذا لم يُحكّم الشريعة - مجرد اجتهاد فكري، بل تحولت إلى حجر زاوية في العقيدة السياسية لجماعة الإخوان، فالتصور القطبي خلق حالة من "المطلقية" الفكرية، وأرسى قاعدة للتعامل مع الدولة الوطنية باعتبارها مشروعًا ناقص الشرعية، ومع المخالفين بوصفهم في منزلة "دون الإيمان الكامل"، حتى وإن كانوا مسلمين.

غير أن هذه الرؤية، حين انتقلت من مستوى التنظير إلى مستوى الممارسة بعد 2011، بدت عاجزة عن الصمود أمام واقع الدولة ومقتضيات السياسة، فالجماعة التي وصلت إلى الحكم بعد ثورة يناير وجدت نفسها أمام تحديات معقدة: اقتصاد مأزوم، مجتمع متنوع، ومؤسسات راسخة، إضافة إلى شبكة مصالح إقليمية ودولية لا تقبل التعامل مع الشعارات المطلقة بل مع المواقف العملية.

هنا ظهر التناقض الكبير: فبينما استبطن الخطاب الإخواني مرجعية الحاكمية المطلقة، مارس قادته سياسة براغماتية مشوبة بالتناقض، إذ سعوا إلى تثبيت سلطتهم عبر اختراق مؤسسات الدولة لا إصلاحها، وأخونة هياكلها لا تحديثها، وبدا واضحًا أن "الدولة" بالنسبة لهم لم تكن سوى وسيلة لإعادة إنتاج المشروع التنظيمي في صورة حكم، لا مسؤولية وطنية شاملة.

وجسدت تجربة حكم محمد مرسي (2012–2013) هذا التناقض؛ فالرئيس هذه المرة من صفوف الجماعة لم يتعامل مع الرئاسة كإطار جامع لكل المصريين، بل كمنصة لتوسيع نفوذ التنظيم، وبالتالي أظهرت القرارات المثيرة للجدل، مثل الإعلان الدستوري، أظهرت أن الإيمان بالحاكمية أفرز قراءة أحادية للدولة، لا ترى الديمقراطية إلا باعتبارها جسرًا إلى السلطة، لا فضاءً للتعددية والتداول.

وهنا لم يجد المجتمع المصري، الذي خرج يطلب بالحرية والديمقراطية، في مشروع الإخوان ما يحقق هذا الطموح، وبالعكس، بدا أن الجماعة تحاول فرض "يوتوبيا قطبية" على واقع غير مهيأ لها، ومع كل أزمة أو احتجاج شعبي لجأت إلى تبريرات دينية وأخلاقية بدلًا من أدوات السياسة والإدارة، وهكذا تحولت تجربة الحكم إلى اختبار قاسٍ كشف هشاشة التصور الفكري الذي بدا لسنوات متماسكًا على الورق، لكنه تهاوى في التطبيق.

وبعد سقوط حكمهم في 2013، لم تقدم الجماعة مراجعة نقدية جادة، بل أعادت إنتاج خطابها القديم بوجه جديد، معتبرة أن المجتمع "لم يكن مهيأ" لتلقي مشروعها، وأن "المؤامرات" حالت دون نجاحها، وكأن الخلل خارج عنها دومًا، وبهذا المعنى، لم يكن الفشل مجرد إخفاق سياسي عابر، بل فضيحة فكرية فضحت ضيق الأفق وغياب القدرة على ترجمة "الحاكمية" من شعار عقائدي إلى مشروع دولة واقعية.

أدبيات على أنقاض الواقع

حين نتأمل مسار جماعة الإخوان، من رسائل البنا الأولى إلى تنظيرات سيد قطب ثم تجربة الحكم في 2011، نجد أنفسنا أمام حالة فريدة من صناعة "أدبيات مغلقة" تحولت بمرور الزمن إلى ما يشبه دينًا بديلًا، ولم يعد الأمر مجرد اجتهادات دعوية أو محاولات إصلاحية، بل منظومة فكرية وتنظيمية تجعل الولاء للجماعة شرط النجاة، والطاعة للمرشد طريق الخلاص الوحيد. البيعة داخل الإخوان لم تكن تعبيرًا رمزيًا عن الانتماء، بل تسليمًا كاملًا للعقل والوجدان، حيث يتخلى الفرد عن حقه في التفكير النقدي لصالح طاعة مطلقة.

ولم تظل هذه المنظومة حبيسة النصوص، بل انعكست مباشرة في السلوك السياسي، فمثلا كعبارة "غزوة الصناديق" في استفتاء 2011 لم تكن مجرد زلة لسان، بل تجسيد كامل لعقلية ترى التصويت للجماعة واجبًا دينيًا، وتحوّل الديمقراطية من أداة تداول إلى طقس تعبدي داخل مشروع مغلق، وهكذا صُبغ المجال العام بلون واحد، وأُقصيت أي مساحة للتعدد أو النقاش الحر.

وحين وصلت الجماعة إلى الحكم، ظهر العجز بوضوح، فلم يكن الفشل نتيجة ضعف الكفاءة فقط، بل انعكاسًا مباشرًا لعقيدة ترى مؤسسات الدولة مجرد أدوات للتمكين، لا كيانات مستقلة تمثل المجتمع، كذلك الصدام مع القضاء، العداء مع الإعلام، محاولة السيطرة على البيروقراطية؛ كلها كانت ممارسات نابعة من عقلية تنظيمية مغلقة، لا من أخطاء عابرة في الإدارة، والنتيجة كانت سقوطًا سريعًا، وانقسامًا حادًا، وفقدانًا للثقة لا في القيادة وحدها، بل في المشروع كله.

الأخطر أن السقوط لم يدفع الجماعة إلى مراجعة صادقة، بل إلى خطاب المظلومية الذي أعاد إنتاج الأزمة، فعندما تقوى الجماعة تتحدث عن "التمكين"، وحين تنهزم تصرخ بـ"المظلومية"، دون أن تقترب يومًا من نقد ذاتها أو تفكيك بنيتها الفكرية، وهذه الحلقة المفرغة جعلت خطابها غير قابل للتطور، وقادرًا في الوقت نفسه على إعادة إنتاج نفسه كلما سنحت الفرصة، بوجه جديد لكن بجوهر قديم إقصائي.

الخلاصة أن أدبيات الإخوان لم تكن يومًا مشروعًا إصلاحيًا، بل وصفة مكررة للفشل والانقسام. لقد حوّلوا الدين إلى أداة سياسية، والدولة إلى ساحة تجارب، والمجتمع إلى رهينة لمشروع لا يرى إلا نفسه.

والدروس أوضح من أن تُتجاهل: أي خطاب يحتكر الحقيقة ويختزل الدين في جماعة والمجتمع في تنظيم، لا يمكن أن يقود إلا إلى الفوضى والانقسام. لذلك فإن مواجهة هذا الخطاب ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة وجودية لحماية استقرار المجتمعات وتنوعها من خطر "دين الإخوان" الذي لم يكن يومًا إلا صناعة بشرية مغلقة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة