صوت الفجر.. حين بدأ النصر
الثلاثاء، 07 أكتوبر 2025 02:02 م
عبد الحليم محمود
كلما سمعتُ تلك الآية، أشعر أنني في فجر السادس من أكتوبر عام ثلاثة وسبعين. الفجر ساكن، والسماء تتنفس ببطء، وصوت الشيخ محمد أحمد شبيب يخرج من إذاعة القرآن الكريم يملأ الأفق بخشوعه العذب (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون).
كانت الآية تمشي في الصدور مثل وعدٍ لا يُقال، وكأنها توقيعٌ من السماء على بداية النصر قبل أن تبدأ المدافع.
كانت الدبابات أول من عبر الجسر العائم، تمضي فوق الماء بثباتٍ يشبه المعجزة، كأنها تمشي على يقينٍ لا يزول. ثم لحقتها القوارب الصغيرة، تتهادى على صفحة القناة وهي تحمل الجنود بوجوهٍ مضيئة وإيمانٍ لا يعرف الخوف. لم تكن مياه النيل تلك التي شاركت المصريين عبورهم، بل مياه قناة السويس التي ظلت لسنوات تخفي وجع الهزيمة في أعماقها. وهناك، على الضفة الأخرى، كان العدو يظن نفسه محصنًا بخط بارليف، حتى رأى الماء يتحول إلى نار، والرمال تنجب رجالًا يكتبون التاريخ من جديد.
لم أكن قد وُلدت بعد، لكني رأيت العبور في التسجيلات القديمة، في وجوه الجنود الذين يسيرون بثقة من يعرف أنه على موعدٍ مع الخلود. رأيت في عيونهم صدى الأناشيد التي لا تموت، وسمعت نبض الأرض تحت أقدامهم وهي تهتف للنصر.
ومن بين الوجوه التي لم تعد، كان خالي الشهيد صدقي محمد عطية، أحد أولئك الذين رحلوا ليبقى الوطن. لم أره قط، لكني أراه في كل وجه بطل، وأسمعه في كل تكبيرة نصر، وأشعر أنه ما زال يعبر معي كلما سمعت تلك الآية في الفجر.
وفي كل عام، حين يجيء أكتوبر، أسمع صوت الشيخ شبيب من جديد، فأشعر أن العبور لم ينتهِ بعد، وأن النصر ما زال جاريًا في دم هذا الوطن. كأن تلك الآية لم تُتْلَ في الفجر فحسب، بل كُتبت في الذاكرة المصرية إلى الأبد: وعدٌ من الله لا يزال يتحقق، كلما أشرقت شمس جديدة على ضفةٍ ما زالت تذكر وقع أقدام العابرين.