مصر.. هندسة التوازن في شرقٍ مضطرب
السبت، 11 أكتوبر 2025 02:47 م
عبد الحليم محمود
لم يكن خبرُ زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى شرم الشيخ مفاجئًا، بقدر ما كان متسقًا مع مشهدٍ يعيد رسم الشرق الأوسط. ففي لحظةٍ تتقاطع فيها الحروب مع الحسابات، تعود مصر لتؤكد حقيقتها القديمة: أنها لا تتحرك بدافع الصوت المرتفع، بل بدافع الضرورة. وبينما ينشغل الآخرون بتبدّل الخرائط، تظل القاهرة ثابتة على معادلتها الراسخة: أمنها أولًا، واستقرار الإقليم من بعدها.
منذ عامين، حين اشتعلت حرب غزة الأخيرة واهتزّت توازنات الشرق الأوسط، بدت العواصم الكبرى عاجزة عن فرض وقفٍ مستدام لإطلاق النار. غير أن القاهرة، التي تعرف تضاريس النار قبل تضاريس الميدان، عملت بصمتٍ طويل انتهى إلى اتفاق شرم الشيخ — اتفاقٍ جمع إسرائيل وحماس برعاية مصرية، وبتنسيقٍ مع قطر وتركيا والولايات المتحدة.
ولم يكن الاتفاق مجرّد هدنةٍ إنسانية، بل خريطةً جديدة لإعادة توزيع النفوذ والأمن في القطاع. فبين محور نتساريم وفيلادلفي ومعبر رفح، أعادت مصر صياغة خطوط السيطرة، واضعةً نفسها في مركز المعادلة لا على هامشها. لم تسعَ القاهرة إلى الهيمنة، بل إلى منع الفراغ؛ لأن السياسة، كما الجغرافيا، لا تعرف الفراغ طويلًا.
وفي هذا السياق، وجّه الرئيس عبدالفتاح السيسي دعوةً رسمية إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحضور مراسم توقيع الاتفاق، في خطوةٍ تحمل دلالاتٍ سياسية تتجاوز البروتوكول. وقد أفادت قناة "القاهرة الإخبارية"، نقلًا عن وسائل إعلام إسرائيلية، أن ترامب يعتزم عقد قمةٍ عربية–أوروبية خلال زيارته لمصر، لبحث مستقبل قطاع غزة. وإذا ما عُقدت القمة، فستكرّس شرم الشيخ من جديد منصةً للحوار الدولي، بعد أن كانت لعقودٍ عنوانًا للسلام والتفاهم في المنطقة.
أما البنود التي نصّت على إشرافٍ مصري مباشر على حركة المعابر، وتنظيم عودة النازحين، وضمان تدفّق المساعدات، فقد كشفت تحوّل الدور المصري من الوساطة إلى الضمان. فالقاهرة لا ترفع شعارات، بل تشتغل بالمصلحة القومية وحدها، إدراكًا منها أن الاستقرار لا يُصنع بالخطب، بل بإدارةٍ دقيقةٍ للصراع وضبطٍ محسوبٍ لإيقاعه.
ما تفعله مصر اليوم هو التطبيق العملي لمبدأ "الواقعية الدفاعية" في العلاقات الدولية: أن تحمي مصالحك دون أن تستفز الآخرين، وأن تتحرك ببطءٍ محسوب حين يكون الإسراع خطأً استراتيجيًا. القاهرة تعرف متى ترفع الصوت، ومتى تكتفي بأن تُسمع همسها. فهي لا تبيع أحلامًا، بل تشتري وقتًا، وتبني مساحاتٍ للتهدئة وسط صخبٍ يعيد رسم المنطقة.
إن اتفاق شرم الشيخ ليس نهاية جولةٍ دامية فحسب، بل بداية مرحلةٍ جديدة في توازن الشرق الأوسط. مرحلةٌ تديرها القاهرة بعينٍ باردةٍ وعقلٍ يقظ، لا بوصفها حكمًا بين الخصوم، بل كدولةٍ تعرف أن قوتها الحقيقية تكمن في قدرتها على إبقاء الباب مفتوحًا أمام الجميع.
وفي زمنٍ تتنازع فيه القوى الكبرى على التأثير، اختارت مصر أن تكون صوت الاتزان. تراهن على الدبلوماسية لا كترفٍ سياسي، بل كأداةٍ للبقاء. فحين يتحدث الآخرون عن الحرب، تردّ القاهرة بالفعل لا بالضجيج.
ولعلها المرة الأولى منذ سنوات، يعود فيها ميزان الشرق الأوسط ليُوزَن من القاهرة، لا من العواصم البعيدة.