عاهد فائق بسيسو وزير الأشغال العامة والإسكان الفلسطيني لـ"صوت الأمة": نبدأ الأن مرحلة مفصلية عنوانها "إعمار غزة من تحت الركام"
السبت، 18 أكتوبر 2025 07:00 م
حاوره - محمود علي
85% من بنية القطاع التحتية دُمّرت بالكامل أو جزئيًا.. والخطة الحكومية لإعادة الإعمار تستند للرؤية المصرية
الموقف المصرى الحازم ساهم بشكل مباشر في إسقاط أحد أخطر أهداف العدوان وهو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم
في لحظة فارقة من تاريخ قطاع غزة، وبين أنقاض الدمار الذي خلفته حرب مدمرة امتدت لأشهر، يلوح أفق جديد يحمل في طيّاته الأمل بالتعافي وإعادة البناء. فبعد قمة شرم الشيخ للسلام التي نجحت فيها مصر، بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، في جمع العالم على كلمة واحدة من أجل وقف الحرب في غزة وإطلاق مرحلة سياسية وإنسانية جديدة، تتجه الأنظار الآن نحو ما بعد الصراع، حيث تبدأ رحلة إعادة إعمار غزة — رحلة شاقة لكنها ضرورية لإحياء الحياة من بين الركام وإعادة البسمة إلى وجوه أنهكها الألم.
في هذا الحوار الخاص، يتحدث الدكتور المهندس عاهد فائق بسيسو، وزير الأشغال العامة والإسكان الفلسطيني لصوت الأمة عن ملامح المرحلة المقبلة وخطط الحكومة للتعافي وإعادة الإعمار، مستعرضا الأولويات الوطنية في ظل حجم الدمار غير المسبوق الذي طال البنية التحتية والمرافق الحيوية، كما يسلّط الضوء على الدور المصري المحوري في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، وقيادة جهود الإعمار، ورفض أي ترتيبات تمس وحدة غزة أو تهدد نسيجها الاجتماعي والإنساني.
وإلى نص الحوار..
بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، كيف ترون ملامح المرحلة المقبلة فيما يتعلق بإعادة إعمار قطاع غزة؟
نحن أمام مرحلة جديدة ومفصلية في تاريخ قطاع غزة، تتطلب الانتقال الفوري من منطق إدارة الحرب إلى منطق إدارة التعافي والبناء. ومنذ اللحظة الأولى لوقف إطلاق النار، كانت الحكومة الفلسطينية على استعداد تام للشروع في تنفيذ الخطة الحكومية للتعافي وإعادة الإعمار، وهي خطة متكاملة استندت في جوهرها إلى الخطة المصرية – العربية التي أقرتها القمة العربية، وفق رؤية فلسطينية وحسب المخطط المكاني الخاص بالقطاع غزة والمعتمد من الحكومة.
الخطة أُعدت بدقة لتُنفَّذ على مراحل، تبدأ فورًا مع سريان الهدنة، وتمرّ بمرحلة التعافي الطارئ، وصولًا إلى إعادة الإعمار الشامل خلال السنوات الخمس المقبلة.
لقد حرصنا على أن تكون الخطة استجابة حقيقية لحجم الدمار غير المسبوق، وأن تلبي احتياجات السكان العاجلة من مأوى وخدمات أساسية، وفي الوقت نفسه تسعى لإحداث تحول جذري في بنية الحياة الاقتصادية والاجتماعية داخل القطاع.
وتستند الخطة إلى عدد من الأولويات المركزية، في مقدمتها حصر الأضرار وتقدير الخسائر الفعلية بدقة، باعتبارها الخطوة الأولى لبناء قاعدة بيانات واقعية تنطلق منها جميع مراحل إعادة الإعمار لاحقًا.
هل تملكون حتى الآن تقديرات دقيقة لحجم الدمار الذي طال البنية التحتية في القطاع جراء الحرب المستمرة بغزة؟
منذ الأيام الأولى للعدوان، بدأنا العمل على ملف حصر الأضرار بشكل منهجي، بالتعاون مع المؤسسات الدولية والإقليمية العاملة على الأرض، وتم تنفيذ عملية مسح شاملة لكل ما أصابه الدمار في غزة، من مساكن وطرق ومبانٍ عامة واقتصادية، إلى شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والبنية التحتية للخدمات.
اليوم يمكننا القول إن حجم الدمار الذي طال قطاع غزة فاق كل التوقعات، إذ تشير التقديرات إلى أن أكثر من 85% من البنية التحتية في القطاع قد تضررت بشكل كلي أو جزئي، وعلى سبيل المثال، كان لدينا نحو 500 ألف وحدة سكنية قبل الحرب، تم تدمير أكثر من 300 ألف وحدة بالكامل، وتضررت قرابة 100 ألف وحدة بشكل جزئي، أما شبكة الطرق فبلغت نسبة الدمار فيها أكثر من 85%، سواء الطرق الرئيسية التي تربط المدن أو الطرق الفرعية الداخلية.
هذه الأرقام الصادمة توثقها تقارير البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، واللذان قدّرا الكلفة الأولية للأضرار بنحو 53 مليار دولار قبل ثلاثة أشهر، أي قبل موجة التصعيد الأخيرة. لكن مع اشتداد العدوان في الشهور الأخيرة، تشير التقديرات الحديثة إلى أن التكلفة تجاوزت 70 مليار دولارحتى الآن، وقد ترتفع مع استكمال التقييمات النهائية.
وما ملامح الخطة الحكومية لإعادة بناء المنظومة الصحية في غزة؟ وما نوع الدعم المنتظر من الشركاء الإقليميين والدوليين؟
القطاع الصحي في غزة يعيش كارثة حقيقية بكل المقاييس. لذلك وضعت الحكومة خطة متكاملة لإعادة إعمار البنية التحتية الصحية، تشارك فيها جميع الوزارات ذات الاختصاص، وعلى رأسها وزارة الصحة التي أعدّت تصورا شاملا لإعادة بناء وتشغيل المستشفيات والمراكز الصحية التي دُمّرت أو خرجت عن الخدمة.
نحن نتحدث عن دمار يتجاوز 75% من المرافق الصحية في غزة، بما في ذلك المستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الأولية والمستودعات الطبية، وأكثر من 28 مستشفى حاليًا خارج الخدمة تمامًا، إلى جانب نقص حاد في الأدوية الأساسية والمستلزمات الطبية، نتيجة تدمير المخازن ومراكز التوزيع.
الخطط التي أعدّتها وزارة الصحة تقوم على إعادة تشغيل المرافق القادرة على التعافي السريع، ثم إعادة بناء النظام الصحي على أسس مستدامة تضمن الخدمة لكل مواطن في القطاع.
التعليم أيضًا كان ضحية مباشرة للحرب، كيف تقيمون حجم الأضرار في المؤسسات التعليمية؟
المنظومة التعليمية تعرضت لضربة قاسية، إذ تشير إحصاءات وزارة التربية والتعليم العالي إلى أن نحو 1660 مدرسة دُمّرت كليًا أو جزئيًا، إلى جانب الجامعات والمراكز المهنية والتعليمية، بمعنى آخر، حوالي 90% من مؤسسات التعليم في قطاع غزة خرجت عن الخدمة.
ووزارة التربية والتعليم العالي وضعت خططًا واضحة لترميم ما يمكن ترميمه على المدى القصير، والعمل على إعادة بناء منظومة التعليم على أسس حديثة، لكن من الواضح أن الاستهداف الإسرائيلي كان ممنهجًا، ويهدف إلى ضرب الرأسمال البشري الفلسطيني، وإحداث إبادة معرفية لجيل كاملة.
ما يجري هو محاولة لخلق فراغ فكري وثقافي من شأنه أن ينعكس على مستقبل المجتمع الفلسطيني لعقود، ومع ذلك، نؤكد أن الإرادة الفلسطينية أقوى من الدمار وأن التعليم سيعود أقوى وأكثر صمودًا من قبل.
في ظل استمرار تمركز بعض القوات الإسرائيلية في مناطق معينة داخل القطاع، ولو مؤقتًا، هل ترون أن ذلك قد يؤثر على المخططات العمرانية وإعادة رسم البنية التحتية مستقبلًا؟
بصراحة، ما يجري على الأرض لا يمكن وصفه بانسحاب حقيقي، بل هو إعادة تموضع عسكري إسرائيلي داخل القطاع. إسرائيل تسيطر حاليًا على مساحات واسعة تقدر بنحو 80 كيلومترًا، تُسمى وفق تعريفها "مناطق آمنة"، لكنها في الحقيقة مناطق عازلة تمنع الفلسطينيين من العودة إليها، وهذا الوضع يشكل خطرًا مباشرًا على السيادة الفلسطينية، ويعطّل تنفيذ المخططات المكانية التي أعدتها الحكومة لإعادة الإعمار.
كيف تقيمون الدور المصري في هذا التوقيت المفصلي، خاصة بعد نجاح مصر في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار؟
مصر، قيادةً وحكومةً وشعبًا، وقفت كالعادة في الصف الأول دفاعًا عن القضية الفلسطينية، ونحن نُقدّر عاليًا الموقف المصري الثابت الذي تعامل مع الملف الفلسطيني بتوازن ومسؤولية، ونسجل لمصر، قيادةً وحكومةً وشعبًا، موقفها الوطني المشرّف من القضية الفلسطينية، التي كانت وما زالت قضيتها المركزية.
لقد كان لموقف مصر من إدارة المفاوضات دورٌ محوري ومتوازن في حماية الشعب الفلسطيني ومنع مخطط التهجير القسري من قطاع غزة، رغم حجم الضغوط الإقليمية والدولية الهائلة والمتشابكة التي تعرضت لها، كما تعاملت مصر مع الملف الفلسطيني باعتباره جزءًا من أمنها القومي، ورفضت بشكل قاطع كل الطروحات التي حاولت فرض الحل من خلال الحدود أو إقامة مناطق مؤقتة داخل سيناء، وهذا الموقف الحازم ساهم بشكل مباشر في إسقاط أحد أخطر أهداف العدوان، وهو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، ولقد أثبتت التجربة أن الدور المصري لا يمكن تجاوزه، وأن استقرار المنطقة لن يتحقق إلا عبر مقاربة عادلة تحفظ وحدة الأرض الفلسطينية وحق شعبها في الحياة الكريمة.
ما هي توقعاتكم بشأن المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة المزمع عقده في مصر؟
نحن نعلّق آمالا كبيرة على المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة، الذي سيتم بالتعاون الكامل مع جمهورية مصر العربية، هذا المؤتمر سيعقد على نمط خطة مارشال التي أعادت بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ونأمل أن يشهد مشاركة واسعة من دول العالم كافة، من أوروبا وأمريكا إلى الدول العربية والإسلامية، وأن يكون منطلقًا لشراكة تنموية حقيقية تضع حدًا لمعاناة سكان القطاع.
ولضمان نجاح المؤتمر، من الضروري أن يتوقف العدوان بشكل كامل، لأن المانحين يحتاجون إلى ضمانات بأن ما سيبنى لن يُدمّر مجددًا كما حدث في جولات الإعمار السابقة، والهدف ليس فقط جمع التمويل، بل تأسيس آلية شفافة ودائمة تضمن التنفيذ الفعلي للمشاريع، تحت إشراف فلسطيني وبشراكة إقليمية ودولية مسؤولة.
كيف تصفون مشهد عودة آلاف النازحين إلى منازلهم المدمرة مع بدء الانسحاب الإسرائيلي؟ وماذا مثّل لكم هذا المشهد الإنساني المؤثر؟
ذلك المشهد الذي رآه العالم كله على شاشات التلفزيون يكفي لشرح قصة هذا الشعب العظيم، فرغم الدمار الهائل، ورغم فقدان المأوى والموارد، أصرّ الفلسطينيون على العودة إلى بيوتهم المهدمة، حاملين في قلوبهم الأمل والإيمان بالحياة.
ورأينا مشاهد مؤثرة لنساء وأطفالٍ ورجالٍ يعودون بين الركام، يرفعون الأعلام الفلسطينية، ويعبّرون عن امتنانهم العميق لمصر، التي وقفت إلى جانبهم في أحلك الظروف، فكان دعمها سندًا لشعب غزة وللشعب الفلسطيني بأسره.