المصرفيون والمتحف المصري الكبير
السبت، 01 نوفمبر 2025 05:33 م
عبد الحليم محمود
في ذلك اليوم الذي أشرقت فيه القاهرة من جديد، كان المتحف المصري الكبير يفتح أبوابه كأنه يفتح قلب مصر أمام العالم. وجاء محمد الأتربي، لا ليتحدث عن الأرقام كما يفعل المصرفيون، بل عن الأثر، عن الروح التي لا تموت. قال في كلمته الهادئة الواثقة: "استثمروا في مصر.. وكونوا شاهدين على هذه الحضارة العظيمة"، كانت جملة قصيرة، لكنها تشبه الأهرامات: قليلة الكلمات، كثيرة المعاني.
لم يدعُ الرجل إلى استثمارٍ في المال، بل إلى استثمارٍ في الزمن. أن تضع يدك في يد التاريخ، لا لتبيعه، بل لتعيد إليه ما أخذه الغياب. كان يتحدث بوعي المثقف أكثر من لهجة الاقتصادي، وكأنه يذكّرنا بأن الثقافة ليست ترفًا، بل ركيزة من ركائز الوجود. من يشارك في بناء المتحف لا يشتري حجارة، بل يشتري ذاكرةً للأجيال القادمة. ولعل الأتربي أراد أن يقول بطريقته الهادئة: نحن لا نحسب العائد هنا بالجنيه، بل بالخلود.
وفي زمنٍ يزداد فيه الضجيج وتبهت فيه الفكرة، جاءت كلماته كاستراحة قصيرة بين جملتين طويلتين من التاريخ. ذكّرتنا بأن مصر ليست فقط مصانع وطرقًا وأبراجًا، بل رائحة طميٍ عالق في الذاكرة، وتمثالٌ ينظر إلينا منذ آلاف السنين ولا يشيخ. واليوم، في احتفالية الافتتاح التي ازدانت بحضور قادة العالم، بدا المتحف كأنه يروي للعالم سيرة الشمس حين تعود إلى مكانها الأول.
لقد كان الأتربي يتحدث وكأن على كتفيه ريشة فرعونية، وفي قلبه بنكٌ من الأحلام. جمع بين الرقم والنقش، بين المنطق وسحر الحكاية، بين دقّة الحاضر وبهاء الماضي. وحين أنهى كلمته، أحسسنا أن المتحف لم يفتح فقط بواباته، بل فتح ذاكرة مصر كلها، كأنه يقول للعالم بصوتٍ يشبه صدى الأبد: "هنا تبدأ الحضارة... وهنا لا تنتهي".