حين يتكلّم صوت الطبيعة ونكتشف سجننا الداخلي
الإثنين، 10 نوفمبر 2025 06:39 م
عبد الحليم محمود
كنت جالسًا ذات مساءٍ حزين، أتأمل صمت الغرفة وثِقل الأيام. كان الحزن يمرّ بي كريحٍ باردة، لا أعرف من أين جاءت ولا إلى أين تمضي. وبالصدفة، وقعت عيناي على عرضٍ في برنامج Britain’s Got Talent.
كانت على المسرح امرأة هادئة الملامح، تقف بثقةٍ صامتة، بلا موسيقى أو مؤثرات. أغلقت عينيها لحظة، ثم بدأت بصوتٍ ينساب كالماء. خرج من حنجرتها صوت المطر، ثم صفير الريح، فـخرير النهر وحفيف الأشجار. تبعتها زقزقة العصافير، طنين النحل، وصهيل الخيول وهي تعدو بحرية. ارتفع عواء الذئاب من عمق الغابة، وعلت فوقه صرخة النسور تشقّ السماء. لم تكن تُقلّد، بل كانت تبعث الحياة في الصمت.
تجمّدت في مكاني. شعرت أن الأصوات لا تخرج من حنجرتها وحدها، بل من داخلي أيضًا. المطر ذكّرني بالبدايات النقيّة، والريح أعادت إليّ حنينًا قديمًا للحرية. صهيل الخيول أيقظ شوقي إلى الانطلاق، وعواء الذئاب عرّى خوفي من الوحدة. أما صوت النسور فذكّرني بأن الروح، مهما أثقلتها الأيام، تظلّ تبحث عن سماءٍ تخصّها. في كل نغمةٍ كان معنى، وفي كل معنى مرآة لشيءٍ نائمٍ في داخلي.
أدركت أن تلك المرأة لم تكن تقلّد الطبيعة، بل كانت تذكّرنا بأننا جزءٌ منها. نحن الذين ابتعدنا عنها حين استبدلنا زقزقة العصافير بإشعارات الهواتف، وهدير البحر بضجيج المدن. نسينا أننا كنّا يومًا امتدادًا للأرض، نعرف لغتها ونحيا بنبضها. كنت أظنّني أشاهد عرضًا فنيًا، لكني وجدت نفسي أعيش لحظة وعيٍ نادرة، كأن الأرض نفسها همست لي: «لقد نسيتني».
انتهى العرض وسط تصفيقٍ صاخب، لكنّي لم أصفّق. كنت مأخوذًا بما سمعت أكثر مما رأيت. خرجت من تلك اللحظة أخفّ روحًا، كمن تذكّر شيئًا عزيزًا كان ضائعًا منذ زمن. ومنذ ذلك اليوم، كلما سمعت المطر أو الريح، أنصت. أُصغي كمن يسمع قلبه للمرة الأولى، وأدرك أن الطبيعة لا تُسمَع خارجنا، بل فينا أيضًا. فهي الصوت الذي يذكّرنا بأننا لم نُخلق لنعلو فوق العالم، بل لننتمي إليه. وعندها أدركت ان كل ما في الطبيعة من جمال ودهشة ، ليس سوى أثر من عظمة الخالق فينا ، وصدى لصوتك العظيم فى الكون الفسيح .