اختر من شئت.. باختيارك تدان

الأربعاء، 06 يوليو 2016 04:10 م
اختر من شئت.. باختيارك تدان
عبد الفتاح علي

لا أحد يجر القاطرة وحده، ولا أحد يملك مفاتيح كل شئ، ولا أحد يعلم الأمر كله، ولا أحد مهماعظم شأنه، أو ارتفع ذكاؤه، أو قويت شوكته، يقدر على يفعل كل شئ بنفسه.
هذه سنة الحياة، والحكمة في الخلق، وسر التعمير في الأرض.
انظر لكتب التاريخ، البعيد منه والقريب، وتعمق في كتب الحضارات، الضارب منها في الأرض، والتي ابتلعتها الأرض، ستدرك أن ما من دولة علت إلا وكان قائدها يعرف كيف يختار رجاله، هنا لب المشكلة، هنا جوهر الأزمة التي تواجه البلاد، وتعذب حال العباد.
المسألة قد تكون صعبة في الاختيار، لكنك لو منحت نفسك الوقت والجهد للبحث والتحري والدراسة والتفكير، سيكون التنفيذ أسرع وأفضل، ولن تغرق في تفاصيل ليست من صميم عملك.
هي أصل فكرة القيادة، فربان السفينة لا يعمل في غرفة المحركات، ولا يقف على رأس العمال في مواقع عملهم، لكنه يختار الأصلح والأفضل والأكثر كفاءة ليصل إلى بر الآمان.
عبدالناصر لم يكن سوبر مان، ولم يكن يجلس مع رؤساء الشركات العالمية ليفاصل معهم في التكلفة، ولا يعقد جلسات مع المقاولين ليخفضوا ثمن المقاولة، لكنه كان دائما يحسن اختيار من سيكلفه بالمهمة، وفي كل مرة ينجح في الوصول إلى الهدف، طبعا باستثناء واحد فقط كان في اختيار قائد الجيش عبد الحكيم عامر، تحت مظلة "لكل قاعدة استثناء".
فمثلا عندما أراد أن يعيد بناء الصناعة المصرية لم يلجأ إلى رجال الأعمال، ولم يلهث خلف المستثمرين، ولم يطلب رضا أصحاب الأموال، ولم يقبل يد صندوق النقد والبنك الدوليين، بل ذهب إلى المهندس عزيز صدقي الشاب الذي لم يكمل عامه الـ 36، واختاره من ضمن عشرات المصريين الحاصلين على الدكتوراة من جامعة هارفارد، والمتخصصين في التخطيط، فنجح في بناء صناعة تفخر بها الأمة العربية، بينما ذهب السيسي إلى رجال الأعمال بداية من منير فخري عبد النور إلى طارق قابيل، فكانت النتيجة عشرات المصانع لازالت مغلقة، ولم نرى مصنعا واحدا يذكرنا بقدراتنا وامكاناتنا وأحلامنا التي بلا حدود.
وفي الشئون الأفريقية، لم تكن لمصر ثمة نفوذا في قارتها العتيقة، سوى كدولة ترزخ تحت نير الاحتلال الإنجليزي، فمنح محمد فائق ذلك الملف، فتحولت مصر بعد سنوات قليلة إلى أهم بلد في هذه القارة، ليس بحكم موقعها الجغرافي، ولا بحكم ثقلها التاريخي، بل أيضا بجهود وتخطيط ذلك الرجل العظيم الذي جعل اسم مصر في أفريقيا كالحلم والنموذج، بينما لا زلنا في عهد السيسي نسعى للعودة كـ "نفر" في عضوية الاتحاد الإفريقي.
وعندما أراد عبد الناصر أن يكون للفلاح المصري حق في الأرض والعرض، منح جمال سالم هذا الملف، فوضع الرجل الهدف، وذهب إلى أساتذة التشريع، فصاغوا القانون الذي هز العالم غضبا، وهز الداخل فرحا، بينما ما أن فكر السيسي في قانون للخدمة المدنية لإصلاح الإدرة المصرية المزرية، سحب الحقوق من العامل، ومنحها للإدارة، فهاج الداخل، وضحك علينا العالم.
وعندما أراد السادات أن يخوض حربا ينتصر فيها، لجأ إلى الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس الأركان، ليضع خطة الهجوم، فنجح وأبهر العالم، بينما فشل السيسي عندما لجأ إلى وزراء الداخلية في عهده في إعادة بناء داخلية محترفة قادرة على الأمن دون أن تدهس في طريقها كرامة المواطن.
سأكون مجافيا للحقيقة لو قلت أن كل ما فعله السيسي كان فشلا، لكن كثير مما يفعله سيؤدي إلى الفشل لعكس السبب الذي نجح فيه في مشروع قناة السويس الجديدة، فعندما فكر عبد الناصر في إنشاء السد العالي، ورغم كل المحاولات لوأد الفكرة، صمد الزعيم، ولجأ إلى صدقي سليمان ليكون أول وزير للسد العالي ليقود فريق المهمة المستحيلة، ولجأ إلى محمود يونس وعمره لم يتجاوز 46 سنة، ليقود فريق تأميم قناة السويس، فنجح التأميم وصدم الجميع.
وهنا كان نجاح السيسي ليس في إنجاز مشروع قناة السويس الجديدة، بقدر ما هو في اختيار قائد المهمة اللواء كامل الوزيري.
عندما نجح محمود يونس في تأميم القناة، لم يمنحه عبد الناصر ملف الصناعة، ولم يطالبه بمد النفوذ المصري في أفريقيا، ولم يطلب منه الإشراف على ملف الإصلاح الزراعي، بل منح كل ملف لرجل قادر على تحقيق الهدف، بينما السيسي يلقى كل مشكلة على عاتق كامل الوزيري والقوات المسلحة.
لدينا مشكلة في الكهرباء، فتتولى الهيئة الهندسية استيراد المولدات العملاقة من الخارج وتشغيلها، ولحل مشكلة الإسكان لجأ إلى الهيئة الهندسية لبناء عشرات الالاف من الوحدات السكنية لمحدودي الدخل، وعندما فكر في إنشاء شبكة من الطرق لتهيئة المناخ للاستثمار، وفتح افاق تنمية جديدة، لجأ إلى الهيئة الهندسية، وعندما أراد إنشاء ثلاثة أنفاق عملاقة تربط سيناء بالوطن، لجأ إلى الهيئة الهندسية، وعندما أراد استصلاح مليون ونصف المليون فدان لم يجد أمامه سوى الهيئة الهندسية، وفي كل مرة يكون كامل الوزيري كلمة السر.
عزيز صدقي لم يكن رئيسا للهيئة الهندسية في القوات المسلحة، ومحمد فائق لم يكن رئيسا لأركان الهيئة الهندسية، الأول كان مهندسا، والثاني كان خريج كلية التجارة.
المشكلة ليست في الهيئة الهندسية، فهي غنية بالكفاءات وقادرة على انجاز ما يسند إليها من أعمال باقتدار، لكن الفكرة في مؤسسات الدولة التي "رمى" الرئيس "طوبتها"، فكيف يستقيم الأمر، ولدينا جهاز إداري بكل هذا الحجم، ويفشل في إنشاء طريق، ويعجز عن توفير سلعة استراتيجية، ويغرق في شبر مية عندما يطلب منه بناء وحدات سكنية.
العجب كل العجب، أن الهيئة الهندسية لا تبنى بنفسها كل هذه المشاريع، بل هي فقط تشرف على الشركات المدنية التي تعمل مع الجهاز الإداري للدولة، لكنها تغش وتتلاعب مع ذلك الجهاز، ثم ترضخ للمقاييس والمواصفات وهي تعمل مع الهيئة الهندسية.
لا يمكن أن تقوم دولة على هيئة واحدة، مهما كانت منجزة، ومهما كانت قادرة.
الإصلاح الحقيقي يكمن في الرغبة في البناء وليس الرغبة في الإنجاز فقط، لأن حسني مبارك رغم كل ما اعترى عهده من فساد جبار إلى أنه أنجز في العشر سنوات الأولى من عهده بنية أساسية واسعة لم يضف إليها جديد منذ النكسة وحتى اغتيال السادات.
أنا أتحدث عن دولة مؤسسات، لبلد يراد لها أن تكون "قد الدنيا".
نعم هي مليئة بالفساد والمفسدين، نعم هي مهترئة ومشلولة، نعم هي عاجزة و متراخية، لكن الإصلاح الحقيقي في إنشاء منظومة تعيد بناء الدولة بمؤسساتها، في اشعال ثورة بداخل كل جهاز إداري، وكل مؤسسة، بأن يتولاها شاب، لم يمر يوما على لجنة جمال مبارك، ولم يتلوث يوما بفيروس العهد البائد.
لن ينجح أبدا الهلالي الشربيني في إصلاح منظومة التعليم البالية التي كان فيها أستاذا ورئيس جامعة، لن يقدر أحمد عماد على أن "يدب" الحياة في القطاع الصحي لأنه أحد حراس المنظومة المهترئة، ولن يقوى مصطفى مدبولي وزير الإسكان على تعمير الصحراء لأنه يده مرتعشة في محاربة الفساد، ولن يقف جلال السعيد وزير النقل أمام مافيا شركات المقاولات، طالما كل الطرق في مصر خربة، ولم يحاسب أحد على خرابه.. قس على ذلك وزراءك ومعاونيك.
حتى شريف إسماعيل رئيس الوزراء ابن المنظومة القديمة، وأحد المستفيدين منها، كان انعدام طموحه السبب الأهم في توليه كل مناصبه التي تقلدها، فكيف لرجل بمثل هذه السيرة الذاتية أن يعين الرئيس، أو يحقق للناس أحلامها.
هل هؤلاء هم رجالك يا سيادة الرئيس؟
أختم ببيت للشاعر عمرو بن الأهتم يقول فيه "لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها.. لكن أحلام الرجال تضيق".. وأحلام رجالك أضيق من "سم الخياط".

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق