الثقافة الشعبية المصرية تتجلى في مولد القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي

السبت، 14 أكتوبر 2017 09:31 ص
الثقافة الشعبية المصرية تتجلى في مولد القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي
مولد القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي

تتجلى الثقافة الشعبية المصرية في الاحتفال بذكرى موالد أقطاب التصوف مثل مولد القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي الذي يبدأ رسميا اليوم السبت، ويستمر حتى يوم الجمعة المقبلة بمشاركة أغلب الطرق الصوفية.

واعتبارا من أمس الجمعة بدأت الاستعدادات المكثفة للاحتفال بمولد إبراهيم الدسوقي بمدينة دسوق في محافظة كفر الشيخ فيما يرتفع الدعاء لمصر من قلوب المحبين وحشود المتصوفة والزائرين لعنان السماء.

وحسب تقديرات معلنة في الأعوام الماضية فإن متوسط عدد الزائرين لمسجد إبراهيم الدسوقي يتجاوز المليون شخص خلال الأسبوع الذي يقام به هذا المولد الكبير ليكون هذا المسجد من أكبر المزارات الصوفية في مصر والعالم الإسلامي وبفضله سجل اسم دسوق الواقعة في شمال مصر ضمن أعضاء منظمة العواصم والمدن الإسلامية.

ويتوافد المصريون مع زائرين من خارج مصر طوال أيام الاحتفال بالمولد على مسجد إبراهيم الدسوقي في منطقة باتت تحمل عبقا مصريا بالغ الخصوصية تماما مثل منطقتي الحسين والسيدة زينب في القاهرة، كما يعد مولد الدسوقي من أكبر احتفالات الموالد في مصر والتي يتصدرها مولد الإمام الحسين وشقيقته السيدة زينب.

وتضفي الطرق الصوفية بمريديها الكثير من طقوسها ومباهجها على المكان وهو ما يحدث أيضا في الاحتفال بمولد السيد البدوي في طنطا وأبو العباس المرسي في الإسكندرية إلى جانب العديد من موالد الأولياء في شتى أنحاء مصر المحروسة.

ويهتم الباحثون في تخصصات ثقافية مختلفة من بينها التاريخ الاجتماعي والأنثربولوجي وعلم الاجتماع الثقافي بتلك الاحتفالات باعتبارها مادة للدراسة والإبحار المعرفي في الطرق والجماعات الصوفية ووظائفها الاجتماعية والثقافية.

وواقع الحال أن الثقافة المصرية تتجلى في صور متعددة بهذا السياق الاحتفالي الذي يظهر أيضا من المنظور الثقافي أن اللغة ليست كلمات فقط، وإنما هي أيضا إيماءات وسلوكيات ورموز وطريقة إخراج على حد قول الباحثة آنا ماديوف في معرض تناولها لهذه الحشود الاحتفالية العارمة.

وإذا كان "المولد" حدثا يلتحم ويتفاعل مع ثقافة وتقاليد المكان كما أنه "مناسبة زمانية للذاكرة الحية"، فإن هذا الاهتمام والتدبر والتفكر في ذكرى مولد إبراهيم الدسوقي يعيد للأذهان ما تحمله إبداعات وكتابات أدباء ومفكرين من أهم رموز الثقافة المصرية حيث تسطع مثلا شخصية الحسين واسمه كما هو الحال في ثلاثية نجيب محفوظ ومسرحيتي عبد الرحمن الشرقاوي: "الحسين ثائرا" و"الحسين شهيدا" ناهيك عن كتاب "الحسين أبو الشهداء" لعباس محمود العقاد.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر ظهرت الكتابات الحديثة حول احتفالات المولد في كتاب "الخطط التوفيقية الجديدة" الذي وضعه علي باشا مبارك فيما تفاعل روائيون مصريون كبار مثل يحي حقي وعبد الحكيم قاسم مع هذه الاحتفاليات كما يتجلى في إبداعهم الروائي وكذلك في السير الذاتية لآباء ثقافيين في قامة الدكتور طه حسين والدكتور سيد عويس، ناهيك عن الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ الذي يشكل التصوف على وجه العموم معينا صافيا في روافد إبداعه الروائي.

وبقدر ما نشأ مولد إبراهيم الدسوقي وتطور متفاعلا مع الشخصية المكانية والثقافية لمدينة دسوق، فإنه يعيد تشكيل المكان فيما القمم العالية لمآذن المسجد تكللها حبال من الأضواء الملونة التي تنساب من المسجد بإشراقات فوق الشوارع والأزقة وتضاريس البنايات والأناشيد الإيقاعية للذكر الصوفي في محيط الاحتفال بالذكرى العطرة لمولد القطب الصوفي الكبير الذي تشارك في احتفالاته 77 طريقة صوفية من مختلف أنحاء العالم.

والقطب الصوفي إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد الملقب بإبراهيم الدسوقي، نسبة لبلدة دسوق، ولد عام 1255 وقضى عام 1296 وقد تأثر بأفكار أحد أكبر أقطاب التصوف وهو أبو الحسن الشاذلي، كما عاصر السيد أحمد البدوي الذي كان يقيم في طنطا وتواصل معه، فيما تولى منصب "شيخ الإسلام" في عهد السلطان الظاهر بيبرس البندقداري وكان يهب راتبه من هذه الوظيفة للفقراء.

ومع التحام الليل والنهار بالبهجة والأضواء والحيوية والروح المصرية المحتفلة بالحياة والمحبة للصالحين مثل القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي يتوزع المكان ما بين كل أنواع البشر وتعدد المستويات الاجتماعية والثقافية، فيما تقف مصر شامخة في مواجهة قوى البغي ومدافعة عن وسطيتها، وتسامحها، وتنوعها، وأسلوبها في الحياة البعيد في الأصل كل البعد عن التعصب والتطرف.

ويتجلى ذلك في كتابات عديدة وإصدارات للثقافة الدينية في مصر مثل الكتاب الجديد الذي صدر بعنوان "القبس الخالد في رسالة التوحيد" للراحل محمود عز الدين بركات الذي قضى العام 1972، وعمل لسنوات طويلة كإمام وخطيب "مسجد حسين بك" بالمنصورة، فيما يتميز الكتاب الذي يكاد يقترب من الـ 300 صفحة بروح صوفية وتأملات إيمانية في قضايا شتى من بينها الإرادة والعلم والحياة والوجود.

وقد يعيد هذا الكتاب بروحه الشاعرية، وأشعاره للأذهان أن القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي كان صاحب ذائقة شعرية وإبداعات في القصيد، فضلا عن وسطيته وتسامحه وشخصيته المنفتحة التي ابتعدت عن كل غلو في رحلة البحث عن الحقيقة.

وها هي مدينته دسوق تفتح ذراعيها لكل ألوان البشر، وهنا يتجلى معنى التصوف المصري في أيقونة صنعها التاريخ وحوارات الأزمنة بعفوية ودون تصنع أو تكلف وتتصافح إبداعات متعددة لتمنح المزيد من الحضور والزخم للمجازات الذهنية والأدوار الرمزية للمدينة، كقطب جاذب في ثقافة المكان للإبداعات الأدبية والفنية.

وذاكرة دسوق "كمنطقة فوق العادة" على حد تعبير مانويل كاستلز عالم الاجتماع الثقافي والاتصال الجماهيري هي ذاكرة صوفية بامتياز ولها حضورها الكوني وعشاق حول العالم، فيما تحتفظ جامعة ليدن بهولندا بنسخة نفيسة من كتاب "الجوهرة" بقلم القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي.

وككل عام أخذت مدينة دسوق زينتها بالأنوار والبيارق بينما تتكاثر حلقات الذكر مع بدء الاحتفال رسميا بمولد إبراهيم الدسوقي الذي قال ضمن أشعاره الصوفية: "سقاني محبوبي بكأس المحبة/ فتهت عن العشاق سكرا بخلوتي".

ولا ريب أن مدينة دسوق الملقبة بعروس النيل، كعلامة دالة على الهوية والانتماء المصري، هي بلدة مؤسسة للبهجة الإيمانية، كما أنها تعبر ببساطة وبلاغة معا عن ثقافة المصريين المنتصرة للحياة والمحتفلة بها في كثير من التعبيرات والإشارات والإيماءات ما بين مفردات اللغة وتبادل التحية وسلوكيات السماحة والتسامح وطقوس الترفيه وفضاءات الحميمية والفطرة الطيبة، ولكأن الإنسانية كلها انخرطت واندمجت في لياليها أثناء الاحتفال بمولد إبراهيم الدسوقي.

وعندما يتوافد الآلاف من كل مكان للمكان الذي تحول في مخيالهم الجمعي إلى شارة عز ونفحات إيمانية فوق خرائط المجد المصرية تصنع المدينة المصرية التي يتجاوز عدد سكانها الـ 100 ألف نسمة "صورتها الخاصة من متن ذكرياتها في المولد الدسوقي التي تصنع سيرة عشق للمكان".

وتضفي الطرق الصوفية بمريديها الكثير من طقوسها، ومباهجها على المكان أثناء المولد الدسوقي بمحيطه وشوارعه ودروبه وخاناته ووكالاته وأزقته ومقاهيه وشخوصه وحكاياته المتناسلة عبر مسيرة الأجيال وحنين النوستالجيا ومنابع البراءة النقية.

ومن نافلة القول إن نفحات موالد أقطاب التصوف تشكل واحدة من أغنى مصادر الإبداعات في عالم المتصوفة، وها هو الشاعر أحمد سويلم يؤكد تأثره بتقاليد الطفولة، وحلقات الذكر باعتبار أن والده كان من كبار مشايخ المتصوفة، ويوضح أنه عبر هذه الحلقات عشق شعر ابن الفارض، وهو ما فتح عينيه على الشعر وغرس حبه في نفسه.

ولئن كان المعنيون بالتصوف يذكرون بالحقيقة التي تقول" إن الذين تركوا بصمات واضحة وثابتة في الثقافة الإسلامية هم العلماء الذين جمعوا بين قلب الصوفي وعقل الفيلسوف لأن القلوب ترطب حسابات العقول ولأن العقول تضبط خطرات القلوب"، فإن هذه الحقيقة دالة على أهمية المزج بين القواعد العلمية الذوقية والمصطلحات الفنية المشتقة من صميم التجربة الوجدانية الصوفية المتميزة.

وفيما تحمل أيام مولد إبراهيم الدسوقي أنفاسا صوفية محببة، فإن هناك العديد من الكتب التي صدرت لكتاب معاصرين عن ثقافة التصوف والصوفية المحلقين بالحب للخالق الواحد الأحد في هذا الكون، وقد تكشف بعض هذه الكتب عن جوانب طريفة مثل علاقة المتصوفة بالموسيقى.

وفي كتاب "كتب وناس" يقول الكاتب والروائي الراحل خيري شلبي إن تحرر الموسيقى الغنائية المصرية من الروح التركية بدأ بشكل مكثف في أوائل القرن العشرين على أيدي أقطاب الطرق الصوفية، موضحا أنهم استخدموا الموسيقى عن وعي عميق يحكمه دور مقصود.

وحسب رؤية خيري شلبي، فإن الطرق الصوفية أعادت الموسيقى إلى أصولها كعنصر فاعل في توصيل الذاكرين إلى مرتبة الوجد الصوفي ووضعوا مقامات شهيرة وقسموا هذه المقامات تبعا لمراحل بلوغ الوجد الصوفي.

وللصوفي الشهير محيي الدين بن عربي قول مأثور ضمن رسالة كاملة من مأثوراته حيث يقول " كل فن لا يخدم علما لا يعول عليه"، وفي ضوء هذه المقولة يتبين أن إبداع الصوفية في الموسيقى كان يخدم علم الموسيقى.

ومن عباءة المنشدين خرج الذين طوروا الغناء العربي ووصلوا به إلى ذروة عالية من القدرة على التأثير القوي في الوجدان حتى أن الذين نبغوا في الغناء الدنيوي هم أولئك الذين هضموا المقامات الصوفية واستوعبوا تجلياتها كابرا عن كابر، كما يقول التعبير العربي الشهير، ومعظمهم كان يعمل في بطانات المنشدين القدامى، ثم أصبحوا بدورهم أعلاما لهم بطاناتهم الخاصة التي يتخرج فيها أعلام جدد.

فليس صدفة إذن أن أعلام فن الموسيقى والغناء في مصر في أوائل القرن العشرين وأواسطه، كانوا شيوخا ومنشدين مثل محمد عبد الرحيم المسلوب ودرويش الحريري ويوسف المنيلاوي ومحمود صبح وأبو العلا محمد وعلي محمود وزكريا أحمد وسيد درويش.

ومن هنا لم يكن غريبا أن يلفت عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للأهمية الثقافية لفنون التلاوة والتجويد والإنشاد والموسيقى على وجه العموم كتشكيل للزمان وهو مجال أسهم فيه المتصوفة بالكثير بقدر ما تتوزع إسهاماتهم الثقافية على مجلات عدة وبعضها لا يخلو من تداخل وتشابك مثل مجالات البلاغة والفن والجمال.

وفي مناسبة كمولد إبراهيم الدسوقي تتوالى النفحات الصوفية ورموز وأعلام التصوف مثل محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج وابن الفارض وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي والسيد البدوي وصولا لعبد الحليم محمود ومحمد متولي الشعراوي.

ويتيح الحب تفهم حالات الوجد والتوحد التي تتلبسهم، فيما يستعرض البعض حالات لأعلام المتصوفة مثل الحلاج الذي كانت مأساته عنوانا لمسرحية شعرية للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور، والنفري "صاحب الوقفات والمخاطبات"، وابن الجوزي والسهروردي، ناهيك عن أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي.

ويتفق العديد من المثقفين في مصر والعالم العربي على وجه العموم على أهمية الدور الذي ينهض به التصوف في تعزيز قيم التسامح ومواجهة التطرف، فيما أضحت التربية الأخلاقية في التصوف الإسلامي في بؤرة اهتمام الدرس النفسي والاجتماعي والديني.

وفي الثقافة الغربية ثمة اهتمام كبير وواضح بالتصوف، ويعكف بعض المفكرين هناك خاصة من المتخصصين في قضايا التصوف والصوفية على بحث دور التصوف في تذليل العقبات أمام الحوار بين المختلفين دينيا وعقائديا، مثل ذلك الكتاب الذي أصدره المستشرق الإيطالي وأستاذ التصوف الإسلامي الدكتور جوزيف سكاتولين بعنوان "تأملات في التصوف والحوار الديني".

وإذا كان المستشرق الفرنسي الراحل لويس ماسينيون قد اشتهر بكتابه الصادر في جزئين بعنوان: "عذاب الحلاج شهيد التصوف في الإسلام"، فإن للدكتور جوزيف سكاتولين عدة كتب في التصوف منها "ديوان ابن الفارض"، و"التجليات الروحية في الإسلام"، وجاء كتابه "تأملات في التصوف والحوار الديني" في جزءين يتناول الجزء الأول موضوع الحوار الديني وأبعاده في عصر العولمة، بينما يركز الجزء الثاني على عالم التصوف والحياة الدينية الروحية.

وكما في نشوة الصبا تبدع اللغة أجمل الأشياء، فإن الصوفية الحقة وهي تحمل المتعة الروحية والراحة والسلوى من آلام الحياة تقترن أيضا بالتفاؤل والإيجابية، فيما سيبقى دور الطرق الصوفية في نشر الإسلام بأفريقيا وآسيا محفورا بحروف من مجد في الذاكرة الإيمانية للأمة.

ولعل ثمة حاجة لمزيد من الاهتمام البحثي في مجالات الثقافة والمأثورات الشعبية والأنثربولوجي والفلسفة والتاريخ والاجتماع بالواقع الصوفي في القارة الأفريقية، فيما تؤكد مؤشرات عديدة على قوة وفاعلية وأهمية دور التجمعات الصوفية في الحياة الأفريقية وخاصة في تلك المناطق الواقعة غرب القارة السمراء.

وتجليات المشاعر الصوفية قد تجعل بعض الناس من أصحاب الأذواق الرفيعة يحسون بالحقيقة، كما لو كانت شيئا ماديا، وعندئذ تختلط المادة بالمجرد، فإذا بهؤلاء الذين لا يتصورون المجرد يبصرونه ويلمسونه وقد انزاح الفاصل بين المجرد والمادي.

وللكلمة عند الصوفية مجد وأي مجد، ولعل فهم ثقافة التصوف يقدم إجابة لسؤال مثل: "كيف يمكن لكلمة بفضل ما تعنيه من شكل وموسيقى وعلاقة بغيرها من الكلمات ان تكون صاحبة شخصية ككائن حي وقوة سحرية بقدر ما تعبر عن نفس إنسانية؟".

وحسب تقديرات الدكتور عبد الهادي القصبي رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر، فإن عدد المتصوفة على مستوى العالم ككل في ضوء البيانات المتاحة يصل إلى 200 مليون شخص، فيما ينوه باحث جاد مثل الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي الأستاذ بجامعة القاهرة بانخراط العديد من المتصوفة المصريين في الأنشطة ذات الطابع الوطني.

والعلاقة بين الصوفية وطلب الحق والحقيقة وثيقة للغاية، بقدر ما تصب في مجرى ثورة العقل والضمير والوجدان وتؤسس لمزيد من ثقافة السؤال وتشد بالفضول المعرفي باحثين غربيين للكتابة عن مصر المتصوفة.

وفي دراسة مستفيضة للرؤية النقدية لابن خلدون للصوفية على مستوى الخطاب والفلسفة والسياسة، أظهر الباحث جيمس ونستون موريس المتخصص في الفلسفة الإسلامية والحاصل على الدكتوراه في لغات وحضارات الشرق الأدنى من جامعة هارفارد، اهتماما كبيرا بالجوانب والأبعاد الاجتماعية- السياسية والمعرفية للصوفية، مؤكدا أن التصوف كان بمثابة المعين الصافي والمنجم الثري للكثير من التجليات والصيغ الإبداعية بعيدة الأثر في الثقافة والحياة بالعالم الإسلامي.

وهكذا لم يكن من الغريب أو المدهش أن يقف مفكر في حجم وقامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع، أمام التصوف بالتأمل والتحليل عبر الإبحار في هذه الموجات الإبداعية المتشابكة والمعبرة عن الأبعاد الثقافية للتصوف بجذوره العميقة في الوجدان العربي - الإسلامي.

وعلى طريق المعرفة، ولج مفكرون مصريون وعرب من أبواب ثقافة التصوف ساعين للنهل من هذا العالم الثري وتحتفظ الذاكرة الثقافية العربية بإسهامات جليلة لأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوي صاحب كتاب "شهيدة العشق الإلهي".

وكان الأديب المصرى الراحل الدكتور زكي مبارك قد قدم للمكتبة العربية كتاب "بين التصوف والأدب"، كما قدم الإمام الأكبر الراحل وشيخ الجامع الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود سلسلة غنية من كتب التصوف والثقافة الصوفية، فيما أبحر صاحب نوبل وهرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ في التصوف ضمن بحاره الإبداعية، كما يتبدى على وجه الخصوص في رواية "ليالي ألف ليلة".

وإذا كان السؤال المؤرق للمبدع العظيم نجيب محفوظ قد انصب على النظام الذي يحكم الكون، فإن إجابته الإبداعية على هذا السؤال الكبير والتي تجلت في إبداعات روائية عديدة إنما اعتمدت إلى حد كبير على معين التصوف وإشراقات الصوفية.

كما تعاطى المبدع الراحل جمال الغيطاني مع أسئلة الحياة والموت، فيما اعتبر أن الرحيل عن الحياة الدنيا مفتتح لبدء جديد وسكة مغايرة، فجمال الغيطاني الذي تأثر أيما تأثر بالموروث الثقافي الثري لأعلام المتصوفة واجترح لغة أقطاب التصوف وفي مقدمتهم النفري وابن عربي وجلال الدين الرومي، كان "صاحب موقف صوفي حيال الموت"، ولعل عمله الثقافي الإبداعي الكبير "التجليات" من أهم أعماله التي تحوي تبصراته وتأملاته في رحلة المسير والمصير الإنساني.

وبروحه الإيمانية استقر في وجدان الغيطاني قول الحق: "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت"، بينما بدا صاحب جائزة النيل في الآداب مشغولا في كتاباته الأخيرة بفكرة "الوداع"، كما يتجلى في "دفتر الدفاتر" الذي تضمن عنوانين دالين: "في وداع أشياء"، و"في وداع أماكن".

وإذا كانت الثقافة الصوفية في أحد معانيها قراءة مجاهدة للذات والوجود ثم الكتابة أو الشهادة بعد هذه القراءة، فإن تلك الثقافة لها مددها الفني الإبداعي كما يتجلى في مولد القطب الصوفي إبراهيم الدسوقي كل عام بأرض الكنانة.. إنها مصر التي تهدل بالحب ولا تشبه إلا ذاتها.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق