«حمام تايه يا ولاد الحلال».. القاهرة بلا مراحيض عامة.. دورة مياه لكل 75 ألف "مزنوق"

الجمعة، 09 مارس 2018 10:00 م
«حمام تايه يا ولاد الحلال».. القاهرة بلا مراحيض عامة.. دورة مياه لكل 75 ألف "مزنوق"
مصطفى الجمل

خرج من المجمع وسار لخطوات بسيطة، التفت يميناً ويساراً، سأل رجل هنا ومار هناك: "فيه حمام قريب؟"، إجابات متلعثمة، لم تدله على الطريق، خمس دقائق أخرى سارها ملتفتاً وسائلاً عن مكان يمكنه قضاء حاجته فيه، في بلاده الأمر غير ذلك تماماً، حتى دلته بائعة شاي بوسط الميدان على أشهر مراحيض المنطقة، مكان يتوسط المكان الذي تجلت فيه الثورة، لم يكذب خبراً وسار حسب الوصف والشرح، قبل أن ينزل الدرج قاومت دخوله الرائحة التي تخرج من المكان، لم يكن أمامه سوى أن يقتحمه مهما كانت الصعوبات، خرج السائح البرازيلي متأففاً، كان بعدها على موعد لزيارة عدد من المعالم الأثرية بمنطقة القلعة، شاهد في الطريق رجلين يلتصقان بحائط ويبولان عليه، لم ينكر عليهما فعلتهما، التي إن رآها في مكان آخر لأبلغ الشرطة بها، بطل عجبه بعدما عرف السبب. 
 
تخيل لوهلة أن هذا السائح وغيره العشرات يقابلون هذا الموقف أثناء تجولهم بالعاصمة، حتماً الصورة التي ستنتقل إلى الخارج أسوأ بكثير من حال المراحيض العامة التي تتوسط القاهرة، المشهد المذكور أعلاه، ومشروعات القوانين التي خرجت خلال الفترة الماضية، لتوقيع عقوبات قاسية على المتبولين بالشوارع، يدفعنا إلى فتح ملف المراحيض العامة، عددها وتوزيعها وتاريخ بنائها، وكيف أثرت على مصر سلباً وإيجاباً، وما بديل الحائط والشارع أمام المرضى والمزنوقين ليل نهار.  
 
الأمر ليس رفاهية كما يتخيل البعض، وليس جديداً علينا فكان المصريون أول من عرفوا المراحيض العامة، وأول من شيدوها، فحرص المصريون في العصور القديمة على النظافة الخاصة، فبنوا الحمامات العامة التي بهرت الرحالة الأجانب وعلماء الحملة الفرنسية الذين زاروا مصر واعتبروها مظهرا حضاريا أفضل مما كان موجودا في أوربا في الفترة نفسها، كما يؤكد الكثير من المؤرخين أن أول من أنشأ الحمام هم الفراعنة.
 
عام  1862 قررت اليابان الاطلاع على الحضارات المجاورة، والوقوف على أسباب  نهضتها، فقامت بإرسال بعثة الساموراى، إلى مصر ضمن جولة فى عدد من البلاد، ونزلت البعثة فى ميناء السويس، واستقل أعضاؤها القطارَ من السويس إلى القاهرة؛ حيث قضوا ثلاث ليال، زاروا خلالها العديد من الأماكن كالقلعة ومسجد محمد علي والأهرامات، ومن القاهرة استقلوا القطار أيضًا إلى الإسكندرية، لمواصلة رحلتهم إلى أوروبا التى بدأت بفرنسا؛ وفى طريق العودة مروا بالطريق نفسه، حيث لم يكن العمل فى شق قناة السويس انتهى بعد، وأشادوا بالقطار وسرعته، وبنظافة المراحيض العامة، والتليغراف، الذى اعتبروه دليلاً على الرخاء الاقتصادى الذى تعيشه مصر، فكانت المراحيض دليلاً قوياً على تقدم القاهرة ونظافتها. 
 
في 2015  كان عدد سكان القاهرة،9,2 مليون نسمة، وفى مقابل هذه المساحة الضخمة وهذا التعداد السكانى العملاق عكان هناك عدد متواضع وضئيل للغاية من دورات المياه التى لم تكن تتعدى 120 مرحاضا عموميا، بواقع حمام لكل 75000 مواطن، مع الوضع في الاعتبار أن الـ 120 حمام غير صالحين للاستخدام الآدمي، بسبب غياب الرقابة عليهم من قبل الحكومة، فلا توجد أنظمة نظافة وتطهير تخضع لها هذه الكيانات بشكل دورى يجعلها صالحة للاستخدام الآدمى، فضلا عن إهمال الدولة لها وغلق معظمها. 
 
وكان لدى محافظة القاهرة وقتها خطة للتطوير والتعامل مع هذه الأزمة،  عن طريق تطبيق مشروع تطوير المراحيض العامة، وبالفعل تم تطوير أكثر من 30 دورة مياه عمومية كان على رأسها دورة "روض الفرج" و"التحرير"، وكان هناك قرار بإعطاء حق الانتفاع لإحدى الشركات الخاصة التى ستتولى أعمال النظافة والتجديد من فترة لأخرى حتى لا تعود هذه الكيانات إلى ما كانت عليه من قبل، على أن يتم تحصيل مبلغ مالى قدره 2 جنيه لكل مواطن يستخدم المرحاض، حتى نضمن مستوى لائق لمثل هذه المرافق ومن ثم نقضى على ظاهرة قضاء الحاجة فى الشوارع والميادين فى القاهرة.
 
كما كان هناك نية للاستعانة بالمراحيض الأتوماتيكية التى تعمل على تنظيف نفسها بشكل تلقائى دون حاجة إلى تدخل بشرى، نظراً لأنها مزودة بدوسات بمجرد الضغط عليها تتساقط المياه داخل وخارج قاعدة المرحاض، فضلا عن تدعيمها بإمكانية خاصة لسحب أى جسم صلب يتراكم داخل القاعدة.
 
بسبب الإهمال وغياب الرقابة، تحولت المراحيض إلى صناديق ومحطات مسئولة عن نشر التلوث، بل واستغلها بعض الخارجون عن القانون وحولوها أوكاراً لممارسة الرذيلة، والاتجار في المخدرات، بل وخطف الأطفال، فلا يغب على أحد وجود عشرات السرنجات المستعملة داخل العديد منها، فضلاً عن بقايا عقار "ترامادول وتامول" فارغة علاوة على أقراص مخدرة مجهولة، علاوة على قضاء بعض السهرات الحمراء داخل تلك الدورات، وسط عجز المارة والجيران عن التصدي لهم خشية أن يتعرضوا لمكروه منهم، ولا سيما أنهم طول الوقت مغيبون عن الوعي. 
 
في عام 2007 افتتحت في العاصمة الهندية "دلهي" قمة دولية تشارك فيها 40 دولة لمناقشة الحلول والتكنولوجيات المقترحة لتوفير حاجة أساسية لنحو نصف سكان العالم، وكان المؤتمر تحت مسمي "أزمات دورات المياه"، ووفقا للإحصاءات فإنه كان هناك 2.6 مليار شخص في أنحاء العالم يفتقرون إلى دورات مياه صحية.
 
كانت الدورة المياه المقابلة لحديقة المريلاند بمصر الجديدة، من أشهر  دورات المياهفي العاصمة،  وكان زوار الحديقة والمارة في الشارع يعرفونها عن ظهر قلب،  وكان كل من يمر على المكان يعرف مكانها، ولكن في يومًا ما اختفت ولم يعرف عنها أحد شيئا، والغريب أنه كان يوجد بها موظف خاص يقوم بتنظيف المكان بشكل دوري ويوميًا يقوم بتنظيف المكان من الخارج حتى لا يشتكي السكان المتواجدين في المكان، وعقب إزالة دورة المياه أصبح قذرًا نتيجة أن الزوار أصبحوا يتبولون على الحائط. 
 
ويوجد دورتان للمياه في وسط المدينة، الأولى موجودة في ميدان عبدالمنعم رياض بجوار الزاوية المخصصة للصلاة ورسم دخولها 50 قرشًا، بينما الأخرى في ميدان باب اللوق، وهو الأكبر في القاهرة، ورسم الدخول فيه جنيه واحد، وهو تابع لمحافظة القاهرة.  
ومع زيادة المطاعم بمنطقة وسط البلد، أصبحت حماماته هي البديل الآمن للمراحيض العامة، ولا سيما أن دورات المياه بها تكون دائمًا نظيفة وبدون رائحة كريهة.
 
في المناطق السياحية كشرم الشيخ ودهب، يصل سعر دخول الحمام العام إلى عشر جنيهات للمصري و2 دولار للأجنبي، مما يهدد بفقدان السياحة في هذه المناطق، ولا سيما بعدما اشتكى السياح من معاملة بعض القائمين على هذه الحمامات. 
 
كان لغياب المراحيض العامة وسط القاهرة، دور كبير في خسارة مصر استضافة كأس العالم في 2007 العام الشهير بـ«صفر المونديال»،  وهو ما ذكره الكاتب الصحفي الكبير حسن المستكاوي قبل ظهور النتيجة الصادمة، حيث ذكر أن أحد المطلعين على أمر اختيار الدورة المنزلة، حل ضيفاً عليه وطلب منه أن يأخذه في جولة بوسط القاهرة، وأثناء الجولة فوجئ به يقول له إن مصر ستخسر سباقها للحصول على استضافة المونديال، معللاً ذلك بأن اللجنة المنظمة تضع ضمن معاييرها أن يكون في محيط كل استاد وعلى مسافة 050 كم منه ما لايقل عن 4 آلاف حمام عام، وهو الأمر الذي تحقق بالفعل، وحصلت مصر على الصفر الشهير. 
 
قطعاً لسنا في حاجة إلى ذكر أن غياب الحمامات العامة، أدى بطرقة مباشرة إلى انتشار مظهر التبول على الحوائط وعلى جدران الكباري والمنشآت، مما شوه المنظر العام، وهدد عدد من المنشآت بالسقوط. 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق