من مشكلات الخطاب الإصلاحي (1)

الثلاثاء، 03 أبريل 2018 04:43 ص
من مشكلات الخطاب الإصلاحي (1)
د.مهند خورشيد يكتب:

تبادل كثيرون من خلال منتديات التواصل الاجتماعي قبل أيام مقالة قديمة مرّ عليها أكثر من عشر سنوات لكاتبة جزائرية فاضلة تشتكي من خلالها حال الأمة الإسلامية التي غدت تحتفل بمطربيها أكثر من احتفالها بأهل الفكر والثقافة وفي نهاية المقالة هنّأت الأستاذة الفاضلة الأمة العربية وأمة محمد على هذا السقوط الثقافي المخجل.
 
قضيتي ليست مع أستاذتنا الفاضلة والتي لها كل الاحترام والتقدير، مشكلتي هي مع هذا الخطاب الإصلاحي والنابع بلا شك عن نية صادقة بغية التغيير لما هو أسمى وأفضل للأمة العربية والإسلامية، لكن هذا الخطاب يعاني من أكثر من مشكلة.
 
أولا: إنه خطاب تغلب عليه لغة التعالي باستخدامه إصبع الأستاذية. 
 
أثناء إحدى دورات تدريب الأئمة التي أُشرف عليها هنا في الجامعة ألقى أستاذ في علم النفس والتواصل محاضرة عن مبادئ الخطاب الناجح وأكد على نقطة رئيسية كثيرا ما تفوتنا، وهي أهمية إشعار ذلك المُتلقِّي لأي رسالة بأن صاحب الرسالة يحترمه ويقدره، يحترم كرامته، يحترم عقله، يحترم أحاسيسه، يحترم سياقه، يحترم رأيه، يحترم شكوكه، يحترم مخاوفه، يحترم آماله، يحترم تطلعاته، يحترم كل ما هو مهم في نظر المُتلقِّي، يحترم حريته، أو بكلمة واحدة جامعة: على كل خطاب، وخاصة الخطاب الإصلاحي، أن يحترم إنسانية المُستقبِل لهذا الخطاب.
 
كم تعجّب أستاذ علم النفس والتواصل هذا حين استمع لخطبة جمعة تكررت فيها عبارات مثل: "أحذركم"، "يا ويلكم من الله"، "أنتم بعيدون عن الله"، "عليك أن تفعل… إياك أن تفعل "، "معظم المسلمين وأنتم منهم لم يفهم الإسلام"، "كل ما أصابنا من هوان على الناس هو بسبب بعدكم عن الله" الخ. وقال: "لا تستغربوا إذا أدّى مثل هذا الخطاب ومع مرور الزمن عكس ما يريد الوصول إليه، لأن طبيعة الإنسان الحر الذي نشأ على احترام نفسه أن يرفض خطاباً يتعامل معه وكأنه طفل ارتكب ذنباً كبيراً أو كأنه مجرم أو سفيه". لكن الجملة التي أثّرت بي كثيراً، هي حين قال معقباً: "إذا عاد وحضر أولئك الذين استمعوا لهذا الخطاب في الأسبوع التالي ليسمعوا مثله مرة أخرى دون أن يُسجِّلوا ملاحظة احتجاج على خطاب هذا الإمام، فهذا شيءٌ لا يمكنني أن أستوعبه، لأنه من احترام الإنسان لنفسه وتقديره لها ألا يسمح أن يُخاطبه أياً من كان مستخدماً هذا الأسلوب الاستعلائي".
 
في نهاية الدورة قال للأئمة: "جربوا بدل أن تكون علاقتكم بمُستقبلي خطابكم علاقة أستاذ بتلاميذه أن تكون علاقة صديق بصديقه، دعوا أسلوب الأستاذية، دعوا إصبع المعلم، فبدل أن تستخدموا على سبيل المثال فعل الأمر مراراً وتكراراً حين تتحدثون عن الصلاة، تحدثوا عن تجاربكم أنتم أو تجارب غيركم الروحية مع الصلاة، تحدثوا عن مزايا الصلاة الروحية والأخلاقية وهذا يكفي، فأنتم تتحدثون لأشخاص أحرار كاملي العقول، دعوهم هم يُجربوا ثم يتخذوا قراراتهم بأنفسهم، وصدقوني سوف تصلون في النتيجة إلى أكثر مما تتوقعونه، لأن الإنسان بطبيعته يحب من يحبه ويحترم من يحترمه ويقدر الخطاب الذي يقدره، بينما ينفر من الخطاب الذي يشعره بصغره أو أنه مقصر ومذنب وأنه هو سبب غضب الإله من الأمة، هذا الأسلوب نسميه في لغة علم النفس "أسلوب الابتزاز العاطفي" وهو من أساليب التلاعب النفسي من خلال استخدام منظومة من التهديدات أو إقناع الآخر بالذنب والتقصير الدائم، وهي من أكثر الأساليب المحطمة للشخصية وللإيمان بالذات بغية السيطرة عليها من قبل الآخر".
 
كم يُذكرني هذا بقول الحق تعالى مخاطباً النبي محمد عليه السلام، والرسالة موجهة لكل خطاب إصلاحي: "فبما رحمة من الله لِنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".
 
احترام المُتلقِّين للخطاب الإصلاحي وتقديرهم والتعامل معهم بروح المحبة والتواضع مهما بعدت رُؤاهم عن رؤى المُصلِح هو شرط أساسي لنجاح هذا الخطاب.      
 
ثانياً: إنه خطاب يُكرّس ذلك الجانب السلبي في الأمة والذي يدّعي أنه يريد مكافحته.
 
من أبجديات علم النفس التربوي أن تذكر للطفل إيجابياته وتركز عليها مهما قلَّت وتجعله يتماها معها وينظر إلى نفسه من خلالها وألا تُركِّز على سلبياته مهما كثرت وأن تتفادى وصف الطفل بها، وإلا فأنت تُكرسها فيه وتجعله ينظر إلى نفسه من خلالها. وهذا ينطبق على الكبير كما ينطبق على الصغير. فما بالنا إذاً بذلك الخطاب الذي يريد أن يُصلح الأمة بأن يعيد ويكرر على أسماع أفرادها ليل نهار كم هم فاشلون ومتخلفون وبعيدون عن الحق الخ. هذا لا يعني التغاضي عن مشاكلنا وأخطائنا، ولكن فرق بين أن يكون حديثنا موزوناً بذكر الإيجابيات والسلبيات أو أن يكون حديثنا عن السلبيات فقط وجعلها هوية للأمة العربية والإسلامية.
 
يختبئ أحياناً وراء هذا التركيز على السلبيات خطاب سلطوي وذلك بطريقة واعية أو ربما غير واعية. فحين أركز على سلبياتك وأفهمك أنك مركب من النواقص ثم أدّعي أنني أملك الحل لمشاكلك، فأنا بهذا أعطي لنفسي صلاحية أن أكون أنا القائد وأنت المُقاد، عليك أن تَتّبعني وتنفذ ما أقول. هذا خطاب سلطوي لبس معطف الإصلاح، وربما كانت جماعات الإسلام السياسي أفضل مثال على هذا الخطاب المُستغل للدين للوصول إلى السلطة والتي هي الهدف الحقيقي لهذه الجماعات. فلا عجب أن تسمع باستمرارٍ من هؤلاء كم أن السواد الأعظم من المسلمين اليوم على ضلالٍ وبعدٍ عن الله. وعبثاً تسأل هؤلاء عن إحصائيات بنوا عليها كلامهم هذا، إذ هي مجرد كذبة افتروها على المسلمين ثم صدقوها استجابة لأهواء أنفسهم. وصدق رسولنا عليه السلام حين قال: "إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم".
 
ثالثاً: إنه خطاب غالباً ما يقفز فوق الواقع وبهذا فهو يُخرج نفسه بنفسه من التاريخ.
 
أريد أن أعود لمقالة الأستاذة الفاضلة والتي أشرت إليها في البداية. فهي تشتكي ككثيرين من المصلحين شدة اهتمام الناس بالمطربين والفنانين كعَرَضٍ من أعراض تخلف الأمة. لكن تعالوا ننظر إلى الواقع، فاهتمام الشعوب بالمطربين والفنانين والرياضيين المشهورين هو قاسم مشترك بين شعوب الأرض جميعاً، لسنا كعرب أو كمسلمين أكثر اهتماماً بالفنانين والمشاهير من شعوب أكثر دول العالم تطوراً ونهوضاً. ولا توجد علاقة مباشرة بين حب الناس لرؤية المشاهير أو شغفهم بالفن أو سماع الموسيقى وبين نهوض أو هبوط الحضارات (هناك علاقة غير مباشرة بين شغف الناس بالأدب والفنون الراقية بما فيها الموسيقى ونهوض الحضارات). فأضخم منتِج للموسيقى والأفلام في عالمنا اليوم هي الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر وأكبر مشاهير الفن والتمثيل في العالم هم من الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك فالشعب الأمريكي من أكثر الشعوب تديناً، أكثر بمراحل من شعوب أوروبا الغربية، ولا يخفى على أحد أن أرقى جامعات العالم، وذلك وفق المعايير العالمية المعمول بها، موجودة في الولايات المتحدة، فلم يمنع كون الشعب الأمريكي يهتم بالفن والفنانين (وربما أكثر بمراحل مقارنة بالشعوب العربية) أن يكون شعباً متحضراً وهذا مع كل السلبيات التي يمكن تعدادها. ليس كون الناس تحب رؤية المشاهير أو الترويح عن نفسها بمتابعة مسلسل تلفزيوني أو التفرج على فلم أو مسرحية أو عرض غنائي أو قراءة قصة هو معيار تقدم أو تأخر الأمم، فهذا من طبيعة الإنسان، ولكن يمكن القول، أن مستوى الإبداع والأصالة في هذا أو ذلك الفن المُستهلَك هو من المعايير الحضارية. ولكن هذا موضوع آخر.
 
ومن البديهي جداً أن الناس تعطي فناناً مشهوراً اهتماماً أكثر من عالم في الطب أو الفيزياء أو الأدب أو الدين، فهؤلاء متخصصون في مجالاتهم وكتاباتهم لا تهم إلا المتخصصين أمثالهم، أما الفنان الذي يحاكي شريحة عريضة في المجتمع، منها الصغير والكبير والمتعلم والعامي، فمن البديهي أن يعرفه الكثيرون وهذا ينطبق على بلاد الأرض جميعها وليس من الموضوعية جعل حب الناس الأكثر لهذا الفنان منه لذلك الفيزيائي معيار تقدم أو انحطاط الأمم.
 
إذا كانت طبيعة الإنسان حب الفن وحب الترويح عن نفسه بعد تعب ونصب العمل والدراسة ثم يأتي خطاب يدّعي أنه خطاب إصلاحي فيُجرِّم الشعوب على ذلك، فهو بذلك يفقد قدرته على التواصل مع هذه الشعوب. كم ساأتني بعض التعليقات المستنكرة على المملكة العربية السعودية أن سمحت في الأيام القليلة الماضية بالعروض الموسيقية، فمنهم من رأى في ذلك مؤشرات الانحطاط الثقافي والديني، وكأنه مكتوب على أهل السعودية من بين سائر العرب والمسلمين، بل والعالمين أن يُحرَموا من الترويح عن أنفسهم بزيارة عرض موسيقي أو مشاهدة فلم سينيمائي. لماذا نُجرِّم شعوبنا باسم الإصلاح؟ لماذا نتكبر على شعوبنا وعلى حقهم في الترويح عن أنفسهم باسم الإصلاح؟ التفرج على فلم سينمائي أو حضور حفلة موسيقية للترويح عن النفس ليس كفراً وليس جُرماً بل تلبية لحاجة إنسانية، وطالما حافظ الجميع على الحشمة بالمعروف فلا تعارض بين ذلك وبين أي دين.
 
فهذا أحد أصحاب رسول الله، حنظلة الأسيدي، ظن أنه منافق، لأنه حين يكون مع الرسول يكون خاشعاً فإذا خرج من عنده عليه السلام انشغل بأمورٍ أخرى كما قال: "عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً"، فجاء رد الرسول متفهماً لطبيعة الإنسان وأنه ليس بملاك مُبرمج: "يا حنظلة، ساعة وساعة"، وكررها عليه السلام ثلاث مرات تأكيداً على أنه يجب على الإنسان أن يعطي نفسه حقها، كما جاء في الحديث النبوي الآخر: "إن لنفسك عليك حقاً". فالترويح عن النفس حق لها. وهذه أمنا عائشة رضي الله عنها دعاها الرسول عليه الصلاة والسلام استجابة لرغبتها كما جاء في الصحيحين للتفرج على رجال جاؤوا من الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد، أي يقدمون، بلغتنا اليوم، عرضاً ترفيهياً.
 
الرسول عليه السلام أعطاها حقها في الترويح عن نفسها واستجاب لرغبتها في التفرج على فنون عصرها حتى وإن كانوا رجالاً. أما في زمن الغلو اليوم فهناك من ربما يطلق زوجته إن تجرأت وطلبت منه مثل ذلك. لقد استنكر رسول الله عليه السلام على أبي بكر حين منع أبو بكر الجاريتين من الغناء في بيت الرسول، فقال له عليه السلام: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا". فالرسول عليه الصلاة والسلام على وعي تام بالطبيعة الإنسانية وحاجتها للترويح عن نفسها وجعل مناسبات للناس يحتفلون بها. ثم يأتي اليوم من يقفز باسم الإصلاح فوق الطبيعة الإنسانية ليُفهِم الناس أن الدين جاء ليلغي جميع أشكال الترويح عن النفس، وهذا غلو في الدين وصد للناس عنه.     
 
كيف للخطاب الإصلاحي أن يصل لشعوب هو يستنكر عليها أدنى حقوقها الإنسانية في الترويح عن نفسها أو حبها للفن والفنانين؟! ومن قال أن شعوب أوروبا وأمريكا أقل اهتماماً بالفن والفنانين؟ ليست هنا مشكلتنا. المشكلة تبدأ حين تختلط الأمور وتصبح النشاطات الترفيهية بدل أن تكون ترويحاً عن النفس من عناء الحياة، أن تصبح هي الشغل الشاغل وهدف الحياة الأساس.
 
في الجزء الثاني من هذه المقالة سوف أتعرض لبعض مشاكل الخطاب الديني الإصلاحي فللحديث بقية..

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق