أكتوبر.. وتعيشي يا ضحكة مصر

السبت، 06 أكتوبر 2018 03:25 م
أكتوبر.. وتعيشي يا ضحكة مصر
حازم حسين

في العاشرة من صباح الثلاثاء، السادس من أكتوبر 2015، كنت في طريقي إلى الضفة الغربية لقناة السويس، بالهيئة نفسها التي كان عليها ثمانون ألف جندي مصري في العام 1973، مع فارق وحيد، أنني كنت ذاهبًا للخسارة، وكانوا ذاهبين للنصر واستعادة الأرض.
 
أكتوبر بطبعه شهر مراوغ، هكذا أراه دائمًا، في طفولتي كان افتتاحية الدراسة ونَكَدها، وانتزاعنا من لهو الإجازة وانطلاقها، وفي طفولتي أيضًا كان التأشير الأوضح على اليُتم والخسارة التي لا جبر لها، فرغم أن أبي رحل في مايو، إلا أن خنجر رحيله لم يخترق قلبي إلا في أكتوبر، حينما دخل مدير المدرسة الفصل، وحدّق فينا قائلا: "إللي أبوه ميّت يقف"، وبعدما وقفت وحيدًا قال للباقين: "اللي مش هيجيب المصاريف بكرة؛ يجيب وليّ أمره معاه، أو ما يجيش، ما عدا الواد ده"، سمعتها وزُلزلت روحي، وسجلتها شعرًا فيما بعد، مناجيًا قسوة الرحيل الأبوي المباغت: "حسّيت وجودك فيّا واضح/ لمّا كُنت لوحدي دونًا عن عيال المدرسة/ ما أدفعش مصاريف الكتب". للمرة الأولى أشعر أنني يتيم، للمرة الأولى أُذبح في أكتوبر.
 
خروجًا من أكتوبر الخاص، إلى أكتوبر العام، لم أعرف عن قيمة الشهر وقداسته إلا ما نقلته لنا كتب المدرسة. كان واضعو المناهج سطحيّين وقشريّين، لم يعوا طبيعة المشهد ولا جلال الموقف، فتخيّلوا أنهم اقتربوا منه في الوقت الذي كانوا فيه بعيدين جدًّا. الأمر ليس مجرد حرب وجنود ورصاص وعبور في قوارب مطاطية وعلى كَبارٍ متحركة. ما تستبطنه هذه المشاهد أكبر وأعظم، رسالة مفتوحة للموت بأننا اخترنا الحياة، رسالة صادمة للضعف بأننا لا نُحبّه ولا نُرحّب به في بيوتنا، ورسالة مكتوبة بالدم المتوهّج بأننا اخترنا اللون الأخضر، وانحزنا للأرض التي تشبهنا، وارتضيناها قبرًا ومزرعة، ونثق أنه ستستر من يموت وتُؤمّن أقوات من يعودون أحياء.
 
عرفت في طفولتي من كتاب الدراسات الاجتماعية أننا انتصرنا واستعدنا الأرض، وعرفت من ابتسامة "عم دسوقي"، بواب المدرسة الوسيم المُهندم حلو الروح، الذي راح بساقيه وعاد بقطعتين من البلاستيك، أن الأمر أكبر من استعادة الأرض. كانت لدينا أشياء أخرى ضائعة واستعدناها، الكرامة، الثقة، الإيمان بذواتنا، وهذه الأشياء هي التي حافظت على ابتسامة «عم دسوقي» رغم أنه لم يخرج من الحرب كما دخلها، ربما فقد فيها الكثير، هذا ما أراه بعينيّ، لكن ما تؤكده ابتسامته الدائمة، أو روحه المُحلّقة حولنا كحمامة بيضاء، أنه استعاد في هذه الحرب أكثر ممّا فقد.
 
 كُنت قد أحببت بنتًا تصغرني بسنة واحدة، لم تعش ملحمة أكتوبر مثلي، ولم تكتوِ بنارها أو ترقص فرحًا مع انتصارها. لكنها ربما كانت أكثر اطّلاعًا على الأمر وخبرة به، فهي المولودة في بورسعيد، المدينة الباسلة التي دفعت فاتورة كبيرة في الحرب وقبلها. جمعتنا المحبة ووثّق المأذون اجتماعنا في يناير 2015، ولعبت الأيام لعبتها لتشقّ قلبينا وتفطر روحينا وتقودنا لمحطة الانفصال في أكتوبر. حينما انطلقت من القاهرة باتجاه الضفة الغربية لقناة السويس قبل 3 سنوات من اليوم، وقبل 4 ساعات تقريبًا من ذكرى اندلاع المعركة، لم يشغلني أكتوبر كوقت أو طقس أو ذاكرة، كنت أُفكّر في أشياء أكثر خصوصية وأهمية بالنسبة لي، رغم أنها - وأنا بالطبع - لا نُعني العالم ولا نُمثّل له قيمة، كنت مُنغمسًا في سيناريو استباقي للهزيمة التي أحبو إليها، كيف سأنطق جملة الاستسلام، وكيف أضمن ألا أنزف دمًا أو دمعًا أمام الجيش الآخر، أو شهود المعركة، بينما طوال الرحلة كانت رأس الجيش الذي أسير باتجاه معركة حامية معه، مستندة إلى كتفي، بوداعة تكفي لأن أتمنّى على الطريق ألا ينتهي، وأن أفر من المعركة وأتولّى يوم الزحف، ورغم صادق الأمنيات، وصلنا واشتبكنا وانهزمت ورفعت الراية البيضاء، في الثانية وخمس دقائق تقريبًا، وبينما كانت 220 طائرة مقاتلة وقاذفة تمخر سماء القناة في توقيت مماثل، لتكسر الجمود الذي خيّم على هذا التراب الغالي، كانت كلمتان ثقيلتان على اللسان تخرجان من فمي، لعلهما أصابتا أحدًا قُبالتي، لعلّهما، ولكنهما اكتسحتا حصوني تمامًا، وضاع ما كنت أُرتّب له، انهمرت دموعي في إعادة معكوسة للمشهد قبل أكثر من أربعة عقود، 220 طائرة في السماء ودموع مبتهجة من ثمانين ألف جندي في الأرض، وغاية غير معلومة بعد، والآن دموع في الأرض ولا طائرات في السماء، والبداية هي النهاية. كانت بورسعيد تنتصر للمرة الثانية، وحتى لو كان هذا الانتصار عليّ شخصيًّا، فإنه كان رسالة واضحة من أكتوبر - هكذا رأيت الأمر لاحقًا - بأنه شهر هذه الأرض، وأنها لا تقبل فيه غير الانتصار، يتساوى في هذا مُحتل التراب مع من تطلّع لسُكنة قلب لا يتّسع له.
 
لا يمكن لمُنصف أن يقترب من السادس من أكتوبر، حاملاً جُملاً إنشائية ومسكوكات لغوية، مع أو ضد، الحقيقة ضخمة والصورة فسيفسائية عظيمة، متناغمة حدّ الدهشة ومُركّبة حدّ الإرباك، لا تكفي كتب المدارس ولا وثائقيات التليفزيونات، وأيضًا لا تكفي ساقا "عم دسوقي" المبتورتان ومذكرات الشاذلي المشحونة غضبًا وغيظًا، السذاجة تبدأ من نسيان طيّاري الـ220 طائرة، وفِرَق الـ1000 مدفع، وعزائم الـ80000 جندي وضابط، واختزال الحرب في السادات أو مبارك أو الشاذلي أو الجمسي أو المناوي أو أحمد إسماعيل، الحدوتة أكبر من الجميع. لهم فيها الكثير الكثير، لكن لله والأرض والجنود وبيوت الفلاحين حصة منها. كان الجميع يتسابقون للموت وعلى شفاههم جملة الأبنودي في أغنيته الشهيرة «وتعيشي يا ضحكة مصر».
 
غادرت الضفة الغربية للقناة في حدود الرابعة عصرًا، ركبت في مقعد بالباص إلى جوار النافذة، وركبت بجانبي فتاة، ربما كانت جميلة، فطوال ثلاث ساعات لم ألتفت يمينًا أو يسارًا، تسحّ عيناي دمعًا لا أعرف مورده، وينهنه قلبي في صدري، ولا تكفي هدهدة السائق وحنوّ المطبّات عليه، ويئنّ هاتفي بين دقيقة وأخرى ولا طاقة في العين لتطوّح ضوءها على عتمته المضيئة، ربما كانت العتمة في عينيّ حقيقة، إذ اكتشفت لمّا وصلت المنزل أنهما متورّمتان وشبه مغلقتين، هكذا صارت العينان الضاحكتان في الثامنة صباحًا كأسي دم وحبّتي طماطم في الثامنة مساء، احتجت لاثنتي عشرة ساعة فقط لأتحول من حال لنقيضها، فكيف ألوم السادات والجيش والقادة والضباط والجنود أو أتفلسف عليهم؟! لم أحتمل معركة صغيرة في حواري بورسعيد، فكيف أسمح لنفسي - أو يسمح غيري لأنفسهم - بارتداء الملابس العسكرية وإعادة محاكمة أكتوبر الآن؟!.. الجهالة والغطرسة وانعدام العقل، تبدأ كلها حينما يشرع أبناء ثمار النصر وقاطفيها في التنظير على من قطفوا الشوك وزرعوا الشجر!
 
يقول العدو كلامًا سخيفًا عن معركة كسرت أنفه ووضعتها في التراب. كلامًا يأخذه فصيل من الأعداء والأصدقاء على محمل الجدّ، بينما يقول الدم والتراب وخارطة سيناء إننا دفعنا ثمنًا باهظًا لقاء هذه اللحظة المهمة والفاصلة في التاريخ المصري الحديث، سقط مئات الشهداء وآلاف الجرحى. من الغباء أن يخترع البعض شجارات عبثية، ولا يُقبّلون جبين كل شهيد من شهدائنا وحذاءه، ويُحسنون دفنه بدلا من إهدار طاقتنا في تشويه كل جميل ونبيل فينا.
 
قبلة الجبين هذه كانت آخر ما اغتنمت قبل هزيمتي في السادس من أكتوبر 2015، ربما بفضلها عبرت لعامٍ تالٍ وأكتوبر آخر، فقليل من المكاسب والانتصارات الصغيرة يمكنها إقامة أَوَد القلب وإقالته من عثرته، والأمر نفسه بالنسبة للبلاد المنذورة للتضحيات والمعارك الكبرى. الشرف أنك إذا وجدت بلدًا في حرب ممتدةّ من أجل الوجود والبقاء والحفاظ على هويته، ألا تطعنه في عفّته. الآن، بعد خمس وأربعين سنة من أكتوبر 1973، أجد وقتًا لأشتبك مع أرواح أهلي، اشتباك محبة لأبطال حقيقيين، عبروا ما لم أعبر، وحقّقوا ما لم أُحقّق، وبينما بكيت على ضفة القناة قبل ثلاث سنوات لهزيمة واحدة، ابتسموا على الجبهة وهم يروون الرمل بدمائهم، ويمسحون التراب والدمع عن وجه مصر.
 
في هزيمتي قبل ثلاث سنوات، بكيت وسلّمت ومشيت مُنكّس الرأس. لاحقًا عبرت ما لم أكن أتخيّل أنني سأعبره، ربما ببركة أكتوبر الذي أصبح شهرًا مُكلّلاً بروح العبور. أثبتت لي الأيام أن أكتوبر القاسي الذي يوقظني مُبكّرًا للمدرسة ويُريني إصابة «عم دسوقي»، في الوقت نفسه شهر نبيل، يُجفِّف الدموع ويُعيد الابتسامات وينفخ في الروح طاقة كافية لأن نقفز كل مانع وسدّ. أكتوبر ليس واحدًا ولا قاسيًا دائمًا، ففيه رفرفت أرواح حرّة، وترمّلت حوريات دفعن قصص حُبّهن راضيات، وخالط اليُتم أفئدة صبية لم يأخذوا من تراب سيناء درهمًا ولا دينارًا، ولكنهم ارتضوا الفخر والشرف، فهل نكون طيّبين إن طعنّاهم في فخرهم؟!
 
ربما لا أجيد الغناء لأكتوبر، وأعيش مشكلة شخصية مع ما سبق من أغنيات، لم تقبض جمرة الوطن أو تلمس ريشة في جناح شهيد، ولكن وأنا أُنشد لأبي أُنشد لأكتوبرنا، بطولاتنا الشعبية الخاصة في الحياة والعبور رغم الموانع والعقبات، وأنا أتذكّر ساقيّ "عم دسوقي" أنشد لأكتوبر، وأنا أبتسم للتلاميذ والتلميذات في شرفات المدارس عابرًا إلى عملي أُنشد لأكتوبر، وأنا أقرأ فاتحتي أُنشد لأكتوبر أيضًا، فلا تحرمونا قصصه، فربما لا أبطال لنا بعدها.
 
أُنشد لأكتوبر أيضًا - أكتوبر الناس والأحلام المُحلِّقة أو المُجهَضة، والضفة الغربية، ضفتي في 2015 أو ضفة الجنود في 1973 - والدم الذي ينزف ولا جراح في صدورنا، والدموع التي لو مسّت هازمينا لأحرقت مُضغة الجبروت والغرور في قلوبهم، وأنا أُحملق في السماء الآن، متناسيًا المولد السنوي لعيال الألفية وهم يُقيّمون رجالاً صدقوا ما عاهدوا التراب عليه، ومُتحلّلاً من التنظير والتفلسُف، فقط أتذكّر هزيمتي الشخصية على ضفة القناة، وأتذكّر أرواح جنود العبور ودماءهم، وأخلط الدمعة بالبسمة، وأنا أشعر بالفخر، وأستشعر في قدميّ طاقة قادرة على العبور، ألتمسها ممن عبروا، وأتنفّسها مع النسائم الآتية من الضفة الشرقية مُحمّلة بأنفاس جنودنا وأهلينا المرابطين الآن في سيناء.
 
ربما يكون الجرح الوحيد الذي تُفجره ذكرى أكتوبر السنوية، أننا لما نُقارب هذا الملحمة فنًّا وغناء وإبداعًا حتى الآن. لم يكتب الشعراء ما ينبغي أن يُكتب، ولم يَحكِ الدراميّون ما ينبغي أن يُحكَى، ولم يُسهم المنتجون والمخرجون والمطربون والمُلحّنون بما تستحقه الذكرى وأبطالها. نُعاني فقرًا شديدًا في توثيق انتصارنا ولحظتنا المُشرقة، وكأن المبدعين يبخلون على العابرين. يحتاج الأمر التفاتة جادة من الدولة ومؤسَّساتها المعنية بالإبداع، ويحتاج اضطلاعًا من أهل الفن بأدوار تُكافئ حصّة مما دفعه أهل الحرب من دمهم وأرواحهم. نحتاج سينما ومسرحًا ودراما تليفزيونية وأدبًا وغناء بقدر أكتوبر وقيمته. سنظل نغني «وتعيشي يا ضحكة مصر». لكن نحتاج تأكيد هذه الضحكة وتخليدها. دفع الآباء الدم، فهل يترحَّم عليهم الأبناء كما يليق بهم؟!

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة