الحيتان تُخلي الطريق لأسماك السلمون.. أزمات العمالقة تُبشر بتغيّر سوق التكنولوجيا

الإثنين، 15 أكتوبر 2018 10:00 م
الحيتان تُخلي الطريق لأسماك السلمون.. أزمات العمالقة تُبشر بتغيّر سوق التكنولوجيا
أزمات شركات التكنولوجيا
حازم حسين

 
يسير العالم باتجاه التكنولوجيا. المستقبل بكامله يبدو حكرًا على شركات التقنية والعاملين في تطوير تقنيات التواصل. لكن مع كل هذا النجاح والانتشار والثروات المتراكمة، لا يخلو الأمر من أزمات ضاغطة.
 
النظر في أسواق المال الكبرى وحركة أسهم الشركات التكنولوجية الكبرى ومستويات أدائها، يؤكد أن الثقة تتعاظم يوما بعد يوم في هذه الشركات، وكونها وجهة استثمارية مُربحة ومضمونة ويُمكن الرهان عليها. هذه الصورة هي القائمة حتى الآن، لكن خلف هذا المظهر البراق تتواتر المؤشرات بين يوم وآخر معلنة عن إشكالات ضخمة في وضعية هذه الشركات، وقدرتها على تأمين نجاحها في مناخ من ديمقراطية المعرفة وتراجع الخصوصية لصالح أنماط اتصال تشاركية مفتوحة إلى المدى الأقصى. هكذا يُمكن لأي تقني مبتدئ أن يُسبب إزعاجا لأية شركة كبرى، ويصعب على بعض هذه الشركات تأمين بيئة عملها من تدخلات الأجهزة والحكومات، والأهم أنها قد تعجز عن تأمين بيتها من الداخل.
 
بمنطق أن لكل نجاح فاتورة أو ضريبة يجب أن تُدفع، من الطبيعي أن تتكبّد الشركات الكبرى كُلفة تتناسب مع حجم ما تحققه من انتشار وعوائد وأرباح. وفيما يخص التكلفة المالية تبدو أغلب هذه الشركات قادرة على تكبّدها، لكن المشكلة حينما يرتبط الأمر بمشكلات فنية أو تنظيمية أو قانونية، تكشف في جانب منها عجز هذه المنصات والتكتلات الاقتصادية الضخمة عن سدّ ثغرات تبدو بسيطة وهامشية، وعن تأمين مسيرة سُفنها العابرة وسط أمواج ليست متلاطمة بالقدر الذي يُمكن أن يُسبب إزعاجا ضخما لمعاقل مالية واستثمارية عملاقة. هنا قد يُشير الأمر إلى مشكلات بنائية وعضوية أضخم من الصراعات الظاهرة، وإلى تهديد حقيقي وجوهري قد يعصف بنجاحات هذه الشركات أو مراكزها السوقية، أو على الأقل يُقلّص قدرتها على صيانة هذه المكتسبات وتنميتها. هذا الأمر ربما يكون كفيلاً بدفع المستثمرين للإحجام عن الرهان عليها، ما يُعني احتمال تراجع أسهمها ومؤشراتها المالية، وإفساح الطريق لبروز كيانات بديلة تشاركها كعكة السوق، أو تلتهم طبقها بكامله.
 
من هذا الباب يُمكن النظر في أزمات شركات التكنولوجيا. تلك الأزمات التي اضطرت إدارة موقع تويتر لحذف قرابة 70 مليون حساب مزيف، وأثارت لغطا حول تطبيقي واتساب للرسائل الفورية وإنستجرام لتبادل الصور. وكبّدت جوجل وفيس بوك وأبل وإنتل خسائر فادحة بسبب صراعات قانونية ومشكلات فنية، وخصمت من الحصص السوقية لشركات كبرى وواسعة الانتشار لصالح شركات أخرى قادمة من الصفوف الخلفية. وما زال الباب مفتوحا مع استمرار المشكلات القديمة وتناميها، أو بروز مشكلات جديدة وتطورها.
 
مقر شركة جوجل
مقر شركة جوجل

فيس بوك بين الغضب والقصور
 
ربما تكون شركة "فيس بوك" المالكة لأكبر منصات التواصل الاجتماعي وأوسعها انتشارا في العالم، أسرع شركات التكنولوجيا والاتصال نموًّا، فالشركة التي تأسست في العام 2004 نجحت في أقل من 14 سنة في حيازة موقع متقدم للغاية بين منافسيها الذين بدأوا العمل قبلها بسنوات، ولكن في الوقت نفسه ربما تكون هذه الشركة الأسرع نموًّا، هي الأكثر مواجهة للأزمات، والأسرع في معدل ما يُثار حولها من شبهات واتهامات، بل وإدانات ثابتة.
 
مارك زوكربيرج مؤسس شركة فيس بوك
مارك زوكربيرج مؤسس شركة فيس بوك
 
في وقت سابق واجهت الشركة فضيحة مدوية مع انكشاف التفاصيل الخاصة بعملية تسريب بيانات أكثر من 87 مليونا من مستخدميها، وبيعها لشركة "كامبريدج أنالتيكا" البريطانية. ومع تداول الأمر أُثيرت مسائل شبيهة عن بيع بيانات المستخدمين للمسوّقين والمعلنين ومنصات التجارة الإلكترونية. وتزامن مع كل هذا اتهام الشركة بالتورط في تسهيل تلاعب أطراف خارجية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت قبل عامين تقريبا.
 
ضمن مسار الأزمات المتلاحقة داخل فيس بوك، واجهت الشركة سلسلة متتابعة من الأزمات التي تخص بيئة العمل الداخلية. بدأت باستقالة مؤسسي تطبيق إنستجرام الذي اشترته "فيس بوك" قبل سنوات، ثم استقالة أحد المديرين البارزين في تطبيق واتساب، واستقالة مسؤولين آخرين داخل الشركة الأم. واستمر تنامي هذه الأزمات وصولا إلى حالة من الغضب في أروقة الشركة وبين العاملين بسبب حضور أحد المسؤولين البارزين بالشركة جلسة أمام مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخرا للشهادة في قضية بريت كافانو الذي رشحه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لرئاسة المحكمة العليا وأُثيرت بشأنه اتهامات واعتراضات قبل أن يُقر الكونجرس تعيينه مؤخرا.
 
مارك زوكربيرج في جلسة استماع أمام الكونجرس
مارك زوكربيرج في جلسة استماع أمام الكونجرس
 
المسؤول الذي أدلى بشهادته في ملف مرشح المحكمة العليا، كان جويل كابلان، رئيس سياسة "فيس بوك"، وكان سبب حالة الغذب التي سادت بين العاملين دفاع "كابلان" عن صديقه "كافانو" الذي واجه اتهامات بالتحرش الجنسي. وبعدما اكتشف موظفو "فيس بوك" صداقتهما وعملهما معا في إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، اعترضوا على هذا الموقف رغم حضور "كابلان" لجلسة الاستماع بصفة شخصية. فكتب أحد الموظفين في رسالة نشرها موقع بيزنس إنسايدر: "أعتقد أن دعم نائب لرئيس الشركة شخصًا متهمًا بالاعتداء الجنسى غير مناسب"، وكتب آخر: "قد أشعر بعدم الارتياح لمشاركة مكان العمل مع هذا الشخص الآن". بينما نقل الموقع عن بيرتي طومسون، المتحدث باسم "فيس بوك" قوله: "نخطط لعقد اجتماع اليوم لمعالجة هذه القضية. الاعتداء الجنسي قضية تغاضى عنها المجتمع لفترة طويلة، ما يُضاعف آلام كل ضحية، وفريق القيادة لدينا يعترف بارتكاب أخطاء في التعامل مع الأحداث، وممتنون لتعليقات موظفينا".
 
جويل كابلان رئيس سياسة فيس بوك
جويل كابلان رئيس سياسة فيس بوك

أحدث أزمات "فيس بوك" تمثّلت في تعرض عشرات ملايين المستخدمين لاختراق قبل أسبوعين تقريبا، جرّاء خلل فني تسبب في ثغرة أمنية استفاد منها مخترقون مجهولون في الحصول على البيانات ومفاتيح الوصول التي تسهل دخول حسابات المستخدمين دون حاجة لكلمات مرور. وبحسب تقرير لـ"نيويورك تايمز" فقد اكتشف الفريق الفني بـ"فيس بوك" ثغرة في ميزة view profile as بعد تحليل مؤشرات الـnetwork traffic، وهي الثغرة التي سمحت للمخترقين بالاستيلاء على معلومات فنية ومفاتيح وصول access tokens ملايين الحسابات، وأن الشركة اتخذت إجراءات عاجلة لتلافي الآثار السلبية والمخاطر المحتملة، بينمت تولت التحقيقات الفيدرالية الأمريكية FBI والسلطات الأيرلندية التحقيق في الأمر بشكل قانوني، بجانب السلطات الأوروبية بموجب قانون حماية بيانات الأفراد GDPR. الواقعة الأخيرة مع واقعة "كامبريدج أنالتيكا" تُعني أن قرابة 180 مليونا من مستخدمي "فيس بوك" تضرروا وتعرضت بياناتهم للخطر، بينما تتواصل الاتهامات التي تُلاحق الشركة ببيع بيانات المستخدمين، والقصور الأمني في منصّتها الضخمة، وسماحها برواج محتوى خارق للقانون وداعم للعنف والكراهية. وتشير تقارير مسحية ودراسات حديثة إلى تراجع "فيس بوك" لدى ملايين المستخدمين، خاصة المراهقين، الذين باتوا يُفضّلون منصة يوتيوب للفيديو وتطبيق "سناب شات" وغير ذلك من التطبيقات الأحدث والأكثر خصوصية ومحدودية من "فيس بوك".


جوجل بين كماشة أوروبا والصين
 
في الأسابيع الأخيرة واجهت شركة جوجل مشكلات حادة مع دول أوروبية عديدة. في فرنسا مثلا طالبت الأجهزة الرسمية الشركة بحذف بعض نتائج البحث عن بعض الأفراد، وتلقت الشركة مطالبات شبيهة من جهات تنفيذية بالاتحاد الأوروبي التزاما بقانون الخصوصية المعمول به في دول الاتحاد. وتحت العنوان نفسه هاجم "ترامب" محرّك البحث الشهير قائلا إنه يتعمّد إخفاء أخبار ومعلومات مهمة عنه، لصالح إظهار أمور سلبية ومسيئة له.
 
بجانب هذه الصراعات يبدو أن جوجل لا تكتفي بالحيّز الذي باتت تشغله عالميا، وبعد سنوات من تجاهلها للسوق الصينية باتت تستنكف أن تخسر هذه السوق الضخمة ومستخدميها الذين يتجاوزون المليار. هكذا تواترت في الفترة الأخيرة مؤشرات وأنباء عن اتجاه عملاق محركات البحث لتطوير نسخة جديدة من مُحرّكها مخصصة للسوق الصينية، بما يتناسب مع الأطر القانونية والرقابية في البلد الآسيوي شبه المغلق.
 
مقر الحزب الشيوعي الصيني
مقر الحزب الشيوعي الصيني
 
هذا التوجه أثار حالة من القلق في أروقة الشركة مع تداول الأمر من خلال تقارير صحفية، ونشر موقع Intercept التقني لمعلومات ووثائق تخص المشروع المزمع تنفيذه قريبا لإطلاق محرك بحث يخضع لرقابة الحكومة الصينية باسم Dragonfly. ورغم أن أحد مسؤولي جوجل صراح لموقع بيزنس إنسايدر البريطاني بأن الشركة "لا تُعلق على تكهّنات حول خططها المستقبلية"، فإن الموظفين شعروا بقدر من القلق بشأن الأمر، سواء فيما يخص سُمعة الشركة وعملها تحت الرقابة الصينية، أو احتمال نقل فريق منهم للعمل من داخل الصين. وقد شبه أحد العاملين الأمر بمشروع "مافن" الذي تعاونت فيه الشركة مع وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون"، وكان سببًا في إثارة موجة غضب عارمة داخل جوجل، وتوقيع آلاف الموظفين عريضة تطالب الإدارة بإنهاء التعاقد، والتعهد بعدم توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة في تطوير الأسلحة والمعدات العسكرية، وتطور الأمر إلى استقالة اثني عشر موظفا احتجاجا على الاتفاق وسياسة الشركة في التعاون مع الجيش الأمريكي.
 
النقطة المثيرة للقلق في المشروع، بحسب الوثائق والمعلومات المتاحة عنه، أن محرك البحث الجديد سيكون خاضعا للرقابة بشكل جزئي، أو بمعنى أوضح سيكون قادرا على تحديد هويات المستخدمين بشكل واضح. فحسبما قالت مذكرة تخص المشروع أعدها مهندس بـ"جوجل" فإن محرك Dragonfly الجديد سيضم تبويبا باسم "استعلامات حساسة"، من المتوقع أن يكون بمثابة قائمة سوداء تضم موضوعات في السياسة والديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان والاحتجاج. كما سيطلب من مستخدميه تسجيل بياناتهم للتمكن من البحث، على أن تتم مشاركة هذه البيانات مع طرف صيني شريك في المشروع. وفي ضوء المعلومات الحساسة التي تضمنتها المذكرة التي تلقاها كثيرون من العاملين بالشركة، طالبت جوجل موظفيها في رسالة إلكترونية بحذف المستند الذي وصفته بـ"الحساس".
 

موجة غضب في مصانع أبل
 
رغم تخطي قيمتها السوقية حاجز تريليون دولار لتصبح أول شركة في العالم تُسجّل هذه القيمة، وانتعاش مبيعاتها بإطلاق سلسلة رائجة من هواتفها خلال العام الأخير، شملت أكثر من 5 هواتف في أقل من سنة. فإن أبل تواجه مشكلات عديدة، لم تتوقف عند تراجعها للمركز الثالث ضمن قائمة الأكثر مبيعا، لصالح هواوي الصينية التي تقدمت لاحتلال المركز الثاني خلف سامسونج الكورية الجنوبية، وإنما تطور الأمر ليطال الأوضاع الداخلية للشركة.
 
في الفترات السابقة واجهت أبل، عملاق التكنولوجيا الأمريكي، صراعات قانونية وأمنية عدّة داخل الولايات المتحدة وخارجها، كبّدتها مصروفات وغرامات باهظة، بجانب الضغوط المتواصلة من الأجهزة الأمنية للسماح لها بالوصول إلى خوادم الشركة وبيانات المستخدمين، لهذا كان اكتمال هذه الدائرة من الضغوط بمواجهة توترات داخلية أمرا بالغ القسوة والتهديد للشركة.
 
الأزمة الداخلية في أبل انطلقت من داخل مصانع "فوكسكون" التي تتولى إنتاج هواتف آيفون لصالح الشركة الأمريكية. فقد شهدت المصانع الضخمة حالة توتر داخلية حادة، وصلت إلى إقدام كثيرين من العاملين على الانتحار بسبب ما قيل إنها ممارسات ضاغطة وغير آدمية، وظروف عمل قاسية، داخل المصانع وفي خطوط الإنتاج.
 
هاتف ايفون
هاتف ايفون
 
بحسب المعلومات المتوفرة فإن مصانع "فوكسكون" تسمح بتشغيل الأطفال أقل من 18 سنة، ويمتد عملهم لساعات طويلة يوميا قد تتجاوز 12 ساعة في كثير من الأحيان وصولا إلى ساعات متأخرة من الليل، بينما تتراوح ساعات عمل البالغين بين 12 و16 ساعة، ويُجبرون في كثير من الأحيان على العمل لأوقات إضافية والعمل 18 يوما متصلة دون إجازات. وكل ذلك بالمخالفة للقوانين وحقوق العمال والأطفال وما تُشيعه شركة أبل نفسه عن بيئة العمل في مصانعها.
 
بجانب هذه الأزمة الداخلية، امتدت مشكلات أبل القانونية وصراعاتها مع الدول والأجهزة الأمنية، ومن أوروبا للولايات المتحدة تطورت هذه الصراعات بشكل دراماتيكي. فمؤخرا دخلت الشركة الأمريكية صراعا قانونيا مع مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI ووزارة العدل، بشأن مسألة فنية أُثيرت من قبل، تخص السماح للأجهزة الأمنية الأمريكية بالنفاذ إلى خوادم الشركة ومعلومات المستخدمين، وقالت أبل في المرات السابقة إنها رفضت طلبات من الحكومة الأمريكية بفكّ تشفير هواتفها وفق قوائم أمنية تتضمن أسماء مشتبها بها أو متورطة في جرائم.
 
مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي
مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي
 
مؤخرا دخلت الشركة موجة جديدة من هذا الصراع المتجدد، مع طلب وزارة العدل والتحقيقات الفيدرالية فك تشفير هاتفي اثنين من المشتبه في انتمائهم لتنظيمات إرهابية ترتبط بحادث إطلاق النار في مدينة سان برناردينو بولاية كاليفورنيا. الشركة من جانبها رفضت الأمر بدعوى سرية المعلومات ورفضها انتهاك خصوصية المستخدمين، وسعيها للمحافظة على سُمعتها وقبولها لدى مستخدميها الذين يُقبلون على هواتفها طلبا للأمان. لكن الجهات الرسمية صعّدت الأمر للمحاكم، وبالفعل أمر قاضٍ اتحادي مسؤولي أبل بالتعاون مع الأجهزة الأمنية، ولم يُنقذ الشركة من هذا المأزق إلا إعلان FBI عدم حاجتها لمساعدة أبل، بعد نجاحها في الوصول إلى بيانات الهاتفين بمساعدة طرف ثالث، قالت تقارير إخبارية أمريكية إنه تمثل في شركة Cellebrite الإسرائيلية.
 
شركة ابل
شركة ابل

ثغرات معالجات شركة إنتل
 
على خط الأزمات حضرت شركة إنتل العالمية المتخصصة في صناعة المعالجات. لم يرتبط الأمر بالعمالة وظروف العمل، وإنما أخذ بُعدًا أكثر قسوة وتهديدًا، إذ طالت الأزمة منتجات إنتل وكفاءتها، بشكل يُهدد حضورها وحصصها في الأسواق العالمية.
 
مقر شركة إنتل لتصنيع المعالجات الإلكترونية
مقر شركة إنتل لتصنيع المعالجات الإلكترونية
 
تمثلت أزمة إنتل الكبيرة في اكتشاف ثغرتين أمنيتين حملتا اسمي Meltdown وSpectre في معالجاتها الصادرة خلال السنوات العشر الأخيرة. خطورة الأمر تمثّلت في تأثير الثغرتين على مستويات الأمان المتوفرة للمعالجات، بشكل يُعرض بيانات المستخدمين ومعلوماتهم للخطر. وارتبط الأمر بخلل في معمارية المعالج وذاكرته نتج عن مشكلة في التصميم انعكست على التنفيذ والصورة النهائية للمعالج. ونتيجة ارتباط الأمر بتصميم المعمارية والذاكرة كان من الصعب التعامل مع الثغرة بشكل عاجل من خلال تحديث سريع. إذ يحتاج الأمر لتدخل أكثر عُمقا يشمل تحديث نواة المعالج ونظام التشغيل بما يمنع استغلال هذه الثغرة أو النفاذ من خلالها لمحتويات ذاكرة المعالج.
 
معالج من شركة إنتل
معالج من شركة إنتل
 
يُذكر أن معالجات أجهزة الكمبيوتر تملك ذاكرة خاصة بالنواة، تتضمن بعض البيانات المهمة الخاصة بالمستخدمين وأجهزتهم، أبرزها مفاتيح التشفير وكلمات المرور وغير ذلك من المعلومات. ويُفترض أن هذه الذاكرة مؤمّنة من الاختراق ويصعب على البرامج النشطة بجهاز الكمبيوتر الوصول إليها، لكن ثغرة التصميم المرتبطة بمعيارية معالجات إنتل كانت تسمح لبعض البرامج بالوصول لذاكرة المعالج وما تحتويه من بيانات دون حاجة لأذون سماح أو اتباع التسلسل الطبيعي لهذه العمليات.
 
وفق الآلية الفنية التي جرى اكتشافها في الثغرة المذكورة، باتت معلومات المستخدمين المهمة التي تخص أنشطتهم ومفاتيح تشفير البرامج وجلسات الاتصال وكلمات المرور لبعض المواقع والحسابات، مُتاحة للمخترقين من خلال وسائط أخرى، عبر اختراق أي برنامج أو تطبيق نشط آخر يصل لهذه المعلومات، ما يُعني قدرة أكبر على النفاذ للمعلومات المهمة من أطراف خارجية. أي سرقة الأكواد والمفاتيح المهمة بالشكل الذي يسمح باختراق الجهاز، ويوفّر لأي موقع إلكتروني يزوره المستخدم أن يُثبّت أو يُشغّل برمجيات خبيثة لاستغلال الثغرة واستدعاء المعلومات من ذاكرة النواة في المعالج، ما يسمح لها لاحقا بمهاجمة جهاز الكمبيوتر الشخصي والحصول على كل ما فيه من بيانات ومعلومات.
 

الحيتان وأسماك السلمون
 
بجانب هذه الباقة من الأزمات الضاربة لأركان أربع من كُبرى شركات التكنولوجيا والتصنيع التقني. لا تبدو الشركات الأخرى بعيدة عن هذا الأمر. سامسونج مُنيت بخسائر فادحة بعد اكتشاف مشكلات ضخمة في واحد من أحدث هواتفها واضطرارها لسحبه من الأسواق. تويتر فقدت أكثر من 70 مليونا من مستخدميها الذين لا يتجاوزون 400 مليون بسبب الحسابات المزورة. تطبيقا واتساب وإنستجرام يواجهان مخاطر ترتبط بسعي الشركة المالكة لتحقيق عوائد مالية عبر فتحهما للإعلانات والتجارة الإلكترونية، أو بيع بيانات المستخدمين للمعلنين وشركات التسويق الإلكتروني. والقوس مفتوح لمزيد من المشكلات والاهتزازات الضخمة التي تصيب الشركات الكبرى ومعاقلها.
 
عمال في مصنع هواتف
عمال في مصنع هواتف
 
طبيعة الأزمات القائمة قد تكون مُرشّحة للتطور. فعلى صعيد الظروف الداخلية وبيئات العمل ربما لا تنتهي اعتراضات موظفي فيس بوك، ولا تتمكن أبل من تحسين بيئة العمل في مصانعها، في ظل سابقها المستميت للحفاظ على وضعها وحصصها السوقية، ولن تتوقف ضغوط الأجهزة الأمنية، وربما لا تنتهي أزمات الثغرات الأمنية في معالجات إنتل أو غيرها من المنتجات والخدمات وشركات الاتصال. في الحقيقة قد يكون الأقرب للواقع أن تتطور الأمور مع تنامي القطاع واحتدام المنافسة وبروز لاعبين جُدد. ومع تعاظم الصراعات فإن المراكز السوقية للشركات الكبرى قد تكون مُعرّضة للخطر، سواء بتآكل حصصها السوقية تقلّص عوائدها، أو على الأقل ثباتها في ظل سوق تقنية عالمية متنامية بشكل يومي وبإيقاع متسارع، وهذا الثبات من قبيل الخسارة أو الانكماش أيضا. ما يُعني أن شركات أخرى ستتقدم لملء هذا الفراغ وتلقّف ثمار النمو المتزايد في القطاع الحيوي.
 
يمكن القول بصورة ما إن الشركات الكبرى تقف بين خيارين، إما أن تتوقف مع المشكلات الحالية محاولة تداركها، مع ما يُكلفها ذلك من نفقات وتعطّل وعدم قدرة على النمو بالمعدلات السابقة، أو تترك الأمور في مسارها القائم مغامرة بتطور الأزمات والمشكلات وتآكل حصصها السوقية وأرباحها. في الحالتين لن تتمكن الحيتان في المدى الطويل من تأمين كمية الغذاء نفسها، إما ستخسرها في إطعام صغارها المثيرون للضيق والضوضاء، أو تخسرها لصالح منافسيها الآخرين من أسماك البحر الشاسع وعميق الأغوار. والأخيرة تُعني فرصًا أكبر للوافدين الجُدد وصغار اللاعبين لضبط نظامهم الغذائي والنمو بشكل أسرع. أو بمعنى آخر ربما نكون بصدد تراجع اضطراري من جانب الحيتان، سيتبعه بالضرورة إفساح الطريق لأسماك السلمون الصغيرة لتأكل وتكبر وتأخذ الدورة نفسها، قبل أن يتجدد الصراع نفسه بعد سنوات.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق