قضاة الأمة.. ابن دقيق العيد: قاضي قضاة مصر ومجدد المائة السابعة

الثلاثاء، 14 مايو 2019 02:00 م
قضاة الأمة.. ابن دقيق العيد: قاضي قضاة مصر ومجدد المائة السابعة
أرشيفية
علاء رضوان

«قاضى قضاة زمانه وعصره»..الخطيب والشاعر الذى كان ملمًا بالأحكام والأحاديث، والذى جعله يشتهر بين الناس بالتقوى فلقب بـ«تقى الدين»، تلك التقوى التى جعلته يقف فى وجه الأمراء لصالح الحق دائمًا، فوضع نفسه على رأس المجددين فى الإسلام، إنه العلامة أبو الفتح محمد بن على القشيرى المنفلوطى المشهور بـ«ابن دقيق العيد».

«ابن دقيق العيد» كان على رأس المئة السابعة الذي جدد للأمة أمر دينها بعلمه الغزير، واجتهاده الواسع، وشهد له معاصروه بالسبق والتقدم في العلم، فقد كان ضليعاً في جميع العلوم اللغوية والشرعية والعقلية، حيث ولد محمد بن عبد الله بن وهب في 25 من شعبان 625 هـ، في عرض البحر، وأبواه متوجهان إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ولما قدم أبوه مكة حمله وطاف به البيت، وهو يدعو الله أن يجعله عالماً صالحاً.   

300

نشأة ابن دقيق العيد كانت في قوص بجنوب مصر، بين أسرة كريمة تنتمي لعائلة من أشرف عائلات الصعيد، فأبوه أبو الحسن علي بن وهب المعروف بـ«مجد الدين القشيري»، العالم الجليل المشهود له بالتقدم في الحديث والفقه والأصول حيث لقب بابن دقيق العيد نسبة لجده «مطيع»، الذي كان ذا شهرة ومكانة مرموقة بين أهل الصعيد، الذين أطلقوا عليه هذا اللقب، لأنه كان يضع على رأسه يوم العيد طيلساناً أبيض شديد البياض فشبهه العامة من أبناء الصعيد لبياضه الشديد بدقيق العيد، كما أطلق على ابنه علي بن وهب واشتهر به حفيده بين الناس، فأصبح لا يعرف إلا به.

 

قضاة الأمة.. النعمان بن محمد: أول من تقلد منصب قاضي القضاة فى مصر زمن الفاطميين

وبدأ ابن دقيق العيد يتلقي دروس العلم بحفظ القرآن الكريم، والتردد على حلقات العلماء في قوص فدرس الفقه المالكي على أبيه والفقه الشافعي على تلميذ أبيه البهاء القفطي، ودرس علوم العربية على محمد أبي الفضل المرسي، وارتحل إلى القاهرة ولزم العز بن عبد السلام فأخذ عنه الفقه الشافعي والأصول ولم يفارقه حتى وفاته، وأراد أن يواصل تحصيله العلمي والأخذ عن العلماء الثقات، فارتحل إلى دمشق في سنة 660هـ/1261م وسمع من علمائها الحديث والفقه والأصول، ثم عاد إلى مصر واستقر بمدينة قوص التي كانت تشتهر آنذاك بالعلماء والمدارس وحلقات العلم، وتقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية وذاع صيته وشهرته في الفقه والحديث وعلومه، وعرف بغزارة علمه وسعة أفقه ولفضله وورعه.  

3437a434-f592-42cb-a5ab-c7446abf0cac

أسند إليه قضاء قوص على مذهب المالكية، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، ولكنه لم يستمر في هذا المنصب كثيراً، فتركه وارتحل إلى القاهرة، وأقام بها واشتغل بتدريس الحديث النبوي في دار الحديث الكاملية، وهي المدرسة التي بناها السلطان الكامل سنة 621هـ/1224م، وتولى مشيختها بعد فترة وجيزة، ودرس الفقه الشافعي في المدرسة الناصرية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي كما درس المذهبين المالكي والشافعي في المدرسة الفاضلية.

وبرع ابن دقيق في الفقه، وشهد له معاصروه بالسبق والتقدم في علومه، وارتقى إلى مرحلة الاجتهاد والقدرة على استخراج الأحكام من الكتاب والسنة، ولجدارته أثنى عليه العلماء، وقد وضع البعض ابن دقيق العيد على رأس المجددين في الإسلام في القرن السابع الهجري، وقال الأدفوي: «ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد»، وقال عنه الإسنوي أنه «حافظ الوقت وخاتمة المجتهدين». 

93143397-1506-41af-ad11-9c261e2272c0

وتتلمذ على يد ابن دقيق العيد الكثير من النجباء، ومنهم عماد الدين بن الأثير، وترك مؤلفات فقهية قيمة أغلبها فقد ولم يصل إلينا منها إلا القليل، ومن أهم تصانيفه كتابه الذي يعد عمدة في علم مصطلح الحديث «الاقتراح في معرفة الاصطلاح»، وشرح مقدمة المطرزي في أصول الفقه»، وشرح مختصر الزبيدي في فقه الشافعية»، و«شرح مختصر ابن الحاجب في فقه المالكية».

 

قضاة الأمة.. الأزدي: أول عائلة تولى فيها الأب والابن والحفيد منصب قاضي القضاة في بغداد

قاضي القضاة

تولى ابن دقيق العيد عقب وفاة قاضي القضاة في مصر، ابن بنت الأعز في 18 جمادى الأولى سنة 695 هـ، منصب قاضي القضاة في عهد السلطان لاجين وقبله بعد تردد وإلحاح، وبلغ مكانة مرموقة في الديار المصرية، وكان، رحمه الله، في قضائه وآرائه مثلاً أعلى للصدق والعدالة والنزاهة، لا يخشى في الحق لومة لائم، أو بطش سلطان، فما كان يراه حقاً يطمئن إليه ينفذه، ولو كان في ذلك غضباً للحكام والسلاطين. 

e3197781-af70-4abf-bea4-3681a91b7a99

رد شهادة نائب السلطنة

لم يقبل شهادة الأمير لأنه عنده غير عدل، وإن كان الجميع يتملقونه ويتقربون إليه فرد شهادة «منكوتمر» نائب السلطنة، حين بعث إليه يعلمه أن تاجراً مات وترك أخاً من غير وارث سواه، وأراد منه أن يثبت استحقاق الأخ لجميع الميراث بناء على هذا الأخبار، فرفض ابن دقيق العيد وترددت الرسل بينهما، لكن القاضي كان يرفض رغم إلحاح منكوتمر عليه، لأن الأدلة لم تكن كافية لإثبات أخوة المذكور إلا شهادة منكوتمر، وأمام إصرار نائب السلطنة استقال ابن دقيق من منصب القضاء احتراماً لنفسه وإجلالاً لمنصب القضاء، فلما بلغ السلطان» حسام الدين لاجين ذلك أنكر على نائبه تصرفه، وأرسل في طلب الشيخ، فلما جاء قام إليه وأجلسه بجواره وأخذ يسترضيه ويتلطف به، حتى قبل أن يعود إلى منصبه.

ويذكر أنه وهو في منصبه رفض قيام السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» بجمع المال من الرعية لمواجهة التتار، معتمدا على الفتوى التي أصدرها العز بن عبد السلام بجواز ذلك أيام سيف الدين قطز، وقال للسلطان: «إن ابن عبد السلام لم يفت في ذلك إلا بعد أن أحضر جميع الأمراء كل ما لديهم من أموال، فكيف يحل مع ذلك أخذ شيء من أموال الرعية، لا والله لا جاز لأحد أن يتعرض لدرهم من أولاد الناس إلا بوجه شرعي».   

eaba9bea-647f-4ab9-ad99-9db11e7c701c

واضطر السلطان لأن يرضخ لرأى القاضي ابن دقيق العيد، وحين رأى بعض الناس يستحلون أموال اليتامى القصر الذين لا يستطيعون التصرف فيما يرثونه من أموال أنشأ ما يسمى «المودع الحكمي»، على غرار «الديوان الحسبي» المعاصر لتحفظ فيه أموال اليتامى الصغار، وتوفي في يوم الجمعة 11 من صفر سنة 702هـ.

وظل الإمام ابن دقيق العيد يقضي حياته في التصنيف والتدريس والعبادة حتى لقي ربه صباح يوم الجمعة لتسعة أيام بقين من شهر صفر 702 هـ الموافق 5 أكتوبر 1302م، وهو في 77 من عمره، ودفن رحمه الله يوم السبت، بسفح المقطم شرق القاهرة، وكان يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، وقد وقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه.  

300 (2)
 
 
201905100214501450
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة