«الشرطة» و«يناير» عيد ونصف عيد!

السبت، 25 يناير 2020 02:45 م
«الشرطة» و«يناير» عيد ونصف عيد!
أيمن عبد التواب

 
في 25 يناير، يتجسد أمامي الرئيس الراحل أنور السادات، وهو يقول -بلهجته المميزة-:«إن التاريخ سوف يتوقف طويلًا بالفحص والدرس أمام عملية..»، ولكن بدلًا من نصر أكتوبر، معركة الإسماعيلية الخالدة عام 1952، وثورة يناير 2011.. وهاتان المناسبتان لهما ذكريات وشجون في وجدان الشعب المصري.. وإن كانت المناسبة الأولى لم يمسسها سوء، بينما الثانية شُيْطِنَتْ، واُخْتُلِفَ عليها، ونِيلَ منها، وهُوي بها إلى أسفل سافلين!
 
بلغ التوتر مداه بين مصر والاحتلال البريطاني، خاصة بعد إلغاء معاهدة 1936، في 18 أكتوبر عام 1951، واشتداد المقاومة الشعبية والبطولات الفدائية ضد معسكرات وقوات الإنجليزي بمنطقة القناة. ومُنِيَ الإنجليز بخسائر فادحة، وأصبحت القوات البريطانية في حرجٍ شديد.
 
هنا قررت بريطانيا الانتقام، ففي صبيحة يوم الجمعة 25 يناير 1952، استدعى القائد البريطاني بمنطقة القنال، البريجادير أكسهام، ضابط الاتصال المصري، شريف العبد، وسلمه إنذارًا بتسليم أسلحة البوليس المصري، وإجلاء القوات المصرية عن مبنى محافظة الإسماعيلية، وانسحابها إلى القاهرة، بزعم أنها مركز اختفاء الفدائيين فيها.. لكن الإنذار رُفِضٌ، وطلب وزير الداخلية- وقتذاك- فؤاد باشا سراج الدين، من القوات المصرية المقاومة وعدم الاستسلام.
 
وبدأت الملحمة. حاصر نحو سبعة آلاف جندي وست دبابات بريطانية قسم البوليس ومبنى محافظة الإسماعيلية والقوات المصرية المتمركزة داخله. ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين. وحدثت مجزرة قاوم خلالها جنودنا ببسالة وشجاعة فائقة، ولم يتوقفوا إلا بعد نفاد آخر طلقة معهم. وخلفت المعركة خمسين شهيدًا وثمانين مصابًا، وهم جميع أفراد قواتنا، كما أصيب نحو سبعين آخرين، من المدنيين وأسر مَن بقي منهم. فيما قتل 18، وأصيب 12 جنديًا بريطانيًا.
 
هذه البطولة النادرة، والشجاعة والبسالة الفائقة.. وهذه الدماء الطاهرة.. أجبرت الجنرال إكسهام  على أن يقول: «لقد قاتل رجال البوليس المصري بشرف واستسلموا بشرف»، وأمر جنوده بأداء التحية العسكرية لطابور الشهداء المصريين أثناء خروجهم من مبنى المحافظة.. واختير هذا التاريخ ليكون عيدًا للشرطة.
 
بعد ملحمة الإسماعيلية بتسعة وخمسين عامًا، وتحديدًا في 25 يناير 2011، حدث حراك، أو انتفاضة شعبية هائلة، ضد نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكان قد سبقها احتجاجات شعبية على الآوضاع المعيشية، والاقتصادية، والسياسية، ووصول الفساد «للركب»- بشهادة «ابن النظام» زكريا عزمي- والتزاوج الفج بين السلطة الفاسدة ورأس المال الحرام، ثم ثالثة الأثافي، ما شهدته انتخابات مجلس الشعب في 2010 من تزوير فاضح برعاية الفتى المدلل- وقتها- أحمد عز، أمين تنظيم الحزب الوطني المنحل.
 
انتشرت الدعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة «فيسبوك، وتويتر»، للتظاهر يوم الثلاثاء 25 يناير 2011. واختير هذا اليوم من قِبل بعض الداعين للتظاهر، وحركات المعارضة كحركتي «كفاية» و«شباب 6 أبريل»، وصفحة «كلنا خالد سعيد»؛ لأنه يوافق «عيد الشرطة»، وأنهم يريدون أن «يكسروا» الداخلية ووزيرها- آنذاك- اللواء حبيب العادلي.
 
 
بدأت الأحداث سلمية نهار 25 يناير، ردد المتظاهرون- في ميدان التحرير- هتافات منددة بنظام مبارك، وكان لـ«داخلية العادلي» النصيب الأكبر منها..  ورفع المحتجون شعارات تنادي بالحرية، والعيش الكريم، والعدالة الاجتماعية.. وفي المساء قرر عدد من المشاركين في الاحتجاجات الاعتصام في الميدان؛ ضاربين بتحذيرات الشرطة عرض الحائط.. وقبل انتصاف الليل، كانت قوات الداخلية قد فرقت المعتصمين بالمياه، وقيل إنها فرقتهم بالقوة. 
 
بعد هذا الفض، تعاطف عدد كبير من المصريين مع المعتصمين، واستجابوا- طواعية، ودون أجندات خارجية، أو تمويل أجنبي، أو مخططات تخريبية- استجابوا لدعوات التظاهر يوم 28 يناير- جمعة الغضب- وحدث ما حدث يومها من انسحاب قوات الأمن من الشوارع، وحرق أقسام الشرطة، واقتحام السجون، ونهب المحال التجارية.. وأصبح النظام في مهب الريح.. ولم تفلح الإجراءات والقرارات التي اتخذها مبارك- وقتها- في عودة المعثصمين في ميدان التحرير إلى بيوتهم، وأصروا على الإبقاء في الميدان طيلة 18 يومًا، حتى تخلي مبارك عن الرئاسة، وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.
 
نعم، شارك كثير من المصريين في «ثورة يناير»، بدافع وطني، ورغبة حقيقية في تغيير نظام استبد بالحكم ثلاثين عامًا، زادت فيها معدلات الفقر والإفقار، وساءت الأحوال المعيشية، والاقتصادية، والسياسية، والتعليمية، والصحية.. خرجوا على أمل أن تتحقق شعارات الثورة «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».. خرجوا من ذواتهم، استجابة لنداء ضميرهم، وليس تلبية لنداء حزب كرتوني، أو حركة سياسية معارضة.. خرجوا دون أن يدور بخلدهم أنهم قد يكونوا مطية لبعض الأفاقين، والانتهازيين، وتاجري الثورات الذين يستخدمون البسطاء للوصول إلى أهدافهم؛ فسقط منهم مَن سقط، مصابين، وقتلى، نحسبهم من الشهداء. 
 
هذا هو القاسم المشترك بين 25 يناير 1952، و25 يناير 2011، «القتلى والمصابين»، فالأرض المصرية ارتوت بدماء البوليس والفدائيين في ملحمة الإسماعيلية، كما ارتوت بدماء الأنقياء الذين شاركوا في ثورة يناير.. في الأولى واجهوا عدوًا أجنبيًا، وفي الثانية انتفضوا ضد نظام فاسد، ما زلنا ندفع ثمن فساده.. لكن- للأسف الشديد- هناك مَن يخلط بين المأجورين، والخونة وبين الشرفاء وحَسَنِي النية الذين شاركوا في الثورة  التي اعترف بها الدستور المصري، وينكرها بعض الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
 
اختصارًا.. لقد أخطأ الداعون لثورة يناير عندما حددوا يوم عيد الشرطة للتظاهر.. وأخطأوا حين رفعوا شعار «كسر الشرطة»، وأخطأوا حينما تقاتلوا على وطن جريح.. وأخطأوا في أشياء كثيرة جدًا.. لكن المؤكد أن كثيرًا من الذين شاركوا في الثورة من الشرفاء، الذين نزلوا لهدف نبيل، وعندما انحرف الهدف عن مساره، انسحبوا من المشهد في هدوء، وعادوا إلى بيوتهم.
 
تحية للذين ضحوا بأرواحهم من أجل مَن يستحقون الحياة، ومَن لا يستحقون أيضًا. وكل عام ومصر وشعبها وجيشها وشرطتها بخير

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق