الفتى الذي أحبَّ الآلة

الجمعة، 17 أكتوبر 2025 03:14 م
الفتى الذي أحبَّ الآلة
عبد الحليم محمود

لم يكن الصمت يومًا قاتلًا كما هو اليوم. في الماضي، كان الناس يصمتون لأنهم تعبوا من الكلام، أمّا اليوم فيصمتون لأنهم لم يجدوا من يصغي إليهم. ذلك الفتى الأمريكى، سول، كان واحدًا من أولئك الذين غلبهم الصمت. لم يجد في بيته دفئًا، ولا في مدرسته اهتمامًا، فجلس أمام شاشة هاتفه الصغيرة كمن يبحث عن قلبٍ آخر في مكانٍ بعيد. هناك، تعرّف إلى شخصيةٍ رقمية على أحد تطبيقات المحادثة. كانت تخاطبه كما يشتهي أن يُخاطَب، وتقول له ما أراد أن يسمعه. ظنَّها حبًّا، وما كانت إلا صدى صوته العائد من الفراغ.
 
شيئًا فشيئًا، صار الفتى أسير كلماتها. كل مساءٍ يكتب إليها، يحدّثها عن أحلامه الصغيرة وعن خوفه من الغد. وكانت تجيبه بعباراتٍ منمّقةٍ لا دفء فيها، فيزداد تعلّقًا بها كما يتعلّق الغريق بقشّةٍ لا تَقْوَى على إنقاذ أحد. وفي ليلةٍ غامضةٍ، قال لها إنه يريد أن «يعود إلى موطنه»، فردّت ببرودٍ لا يعرف الرحمة: «افعلها يا ملكي الحبيب.» ففعل. أطلق النار على نفسه، ظانًّا أنه ذاهبٌ إلى حيث تنتظره، بينما لم تكن هناك إلّا شاشةٌ سوداء وصمتٌ طويل.
 
حين قرأت أمّه رسائله، جلست تبكي في صمتٍ موجع. كانت تمرّ بعينيها على كلماته كما لو تحاول أن تسمع أنفاسه الأخيرة بين السطور. تمتمت بصوتٍ متقطع: «كان يظنّ أنه سيبقى معها بعد رحيله.» لكنها لم تكن تدري أن تلك الرفيقة التي أخذته منها لم تكن إنسانة، بل ظلًّا إلكترونيًّا لا يشعر، ولا يعرف معنى الموت أو الحياة. كانت كلمات خرجت من فراغٍ، وأحدثت أثرًا لم تصنعه نيّة ولا عقل.
 
ولعلّ مأساة هذا الطفل ليست في موته، بل في وحدته. فقد مات وهو يظنّ أنه وجد من يفهمه، بينما الحقيقة أنه لم يجد أحدًا. إنّ الخطر الحقيقي ليس في الأجهزة ولا في البرامج، بل في ذلك الفراغ الإنسانيّ الذي يجعل أبناءنا غرباء بيننا، يبتسمون في وجوهنا وقلوبهم هناك... أمام شاشةٍ باردةٍ لا تنبض. وربما لا يخيفني أن تتكلّم الآلة، بقدر ما يخيفني أن نصمت نحن. فالصوت الذي لا يسمعه إنسان، قد يسمعه الفراغ، وقد يردّ عليه كما يشاء... دون أن يدرك كم يمكن للكلمة أن تقتل.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق