حين تلد الحضارة أبناءها ليقتلوها
السبت، 25 أكتوبر 2025 08:22 م
عبد الحليم محمود
كانت أمّ نيرون ترى في ابنها امتدادًا لحلمها القديم بالعظمة. حلمت له بالمجد، وربّته على الطاعة والذكاء والدهاء. لم تكن تعلم أن العظمة، حين تتجاوز حدودها، تصير شهوةً تلتهم أصحابها.
وحين أمر نيرون بقتلها، دخل عليها الجنود يحملون السيوف. لم تبكِ ولم تصرخ، بل قالت كمن يواجه مصيره بابتسامة أخيرة: "إذا كان ابني يريد قتلي، فليطعن هذا البطن الذي حمله".
كانت تعرف أن النهاية ليست خطأً في القدر، بل جزءًا من طبيعته. فالأم التي تُنجب إمبراطورًا قد تُنجب قاتلها أيضًا. ومنذ ذلك اليوم، والحضارة تخشى أبناءها، تعرف أن بينهم من سيحمل في داخله رغبة خفية في إحراقها، باسم المجد أو باسم التجربة.
في الإسماعيلية، لم يكن نيرون إمبراطورًا، بل طفلًا في الثالثة عشرة. لكنه عرف كيف يقتل، وكيف يقطّع، وكيف يتحدث بعدها بلا ارتباك، كمن يحكي مشهدًا من فيلمٍ لم يعد يفرّق بين الخيال والواقع. قال في التحقيق: "رأيت ذلك في أحد المسلسلات.. أردت أن اجربه".
لم يعد الموت سرًّا، ولا الحياة نعمةً تُصان. صار كل شيء قابلًا للتجريب.
الخيال ابتلع الواقع، والشاشة أصبحت المربِّي الأول. لم يعد القاتل يحمل سكينًا، بل هاتفًا. ولم يعد يقتل بدافع الغضب، بل بدافع الفضول، كمن يضغط الزر الأخير في لعبةٍ لا تنتهي.
وحين يغيب الأب، وتنشغل الأم، ويتحوّل التعليم إلى سباقٍ للدرجات، والإعلام إلى ضجيجٍ بلا معنى، يصبح الخطر كامناً في الغرف الصغيرة المضيئة. نربي أبناءنا على المحبة، ثم نسلّمهم طواعيةً إلى الشاشات التي تسرق أرواحهم قبل عقولهم.
وحين تقع الفاجعة، لا نعرف من نلوم: الأسرة؟ المدرسة؟ أم الحضارة التي علّمت أبناءها كيف يعيشون، ونسيت أن تعلّمهم كيف يحبّون؟
لقد أنجبتنا حضارة عظيمة، لكنها تبدو اليوم وكأنها تردد، بصوتٍ متعب، ما قالته أم نيرون وهي تموت: "ذا كان ابني يريد قتلي، فليطعن هذا البطن الذي حمله".