النداهة

الثلاثاء، 02 نوفمبر 2021 03:17 م
النداهة
شيرين سيف الدين

 
آه منها تلك السارقة المارقة التي أضاعت من حياتنا ساعات وأيام وسنوات، أفقدتنا بكامل إرادتنا لذة الحياة الطبيعية والكثير من متعها التي تشبع دواخل النفس.. ساحرة ماكرة سحبتنا جميعا ببساطة وسلاسة وعلى ما يبدو أنها قررت أن تقضي على ما تبقى من روابط مباشرة تجمع بين الأحبة!
 
إنها "المسيخ الدجال " المتمثل في التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل أو "التباعد" الاجتماعي والألعاب الالكترونية والمواقع المختلفة التي باتت تشكل أنماط حياتنا وتغير في ثوابتنا وتوجهنا حيث تشاء.
 
الجميع أصبح يشكوا من سرقة التكنولوجيا لحياته الطبيعية، والأغلبية أصبحت تعيش وسط العالم الافتراضي عبر الأجهزة المختلفة.
 
 تستطيع بنظرة سريعة التأكد من أن المجاورين لك في المكان قد يكونوا الأبعد منك في التفاعل والتواصل، وأن من تبعدك عنهم آلاف الأميال وتفصلكم البحار والمحيطات هم الأقرب إليك في الرد على أسئلتك وأحاديثك والتواصل السريع معك، وقد تجلس بجوار أبناءك ولا يدور بينكم حوار واحد حول فكرة أو رأي أو إحساس، لأن كل منكم يدير حواره الخاص عبر أزرة الهواتف مع أشخاص بعضهم حقيقي، والكثير منهم افتراضي، كل منكم يسبح في عالمه الخاص وقد ندهته النداهة وسحرته التكنولوجيا ووسائل التواصل التي قربت البعيد ومع الأسف أبعدت القريب.
 
الجميع دون استثناء كبيرا وصغيرا انساق وراء ذلك العالم، وبدأ الخوف يدب في النفوس بعد ظهور أقاويل حول مستقبل مرعب، وتفسيرات حول عالم "ميتا" القادم الذي وعلى ما يبدو أنه سيقضي على ما تبقى من العلاقات المباشرة المريضة ويميتها، وكأن الاسم اشتُق من "الموت".
 
إذا فماذا نحن فاعلون؟
 
هل سنستمر في الشكوى اللفظية فقط دون اتخاذ خطوات للخلف كي تعود الحياة الاجتماعية والأسرية لسابق عهودها؟
 
و هل سننساق مسلوبي الإرادة لما قررته لنا مجموعة أشخاص في طرف العالم الآخر؟.. أم أننا سنبدأ في استخدام نعمة العقل الذي وهبنا الله إياه؟
 
منذ فترة وقد اتخذت قرار شخصي بأن أساعد نفسي وأسرتي على التقليل من الالتصاق بالهواتف والأجهزة، ومحاولة إذابة حالة التجمد أمام الشاشات، وقررت إعمال عقلي في البحث عن الطريقة المناسبة والفعالة.
 
في البداية كنت أطالب أبنائي بالابتعاد عن الشاشات دون إيجاد بدائل جاذبة لهم، وبالتالي باءت محاولاتي بالفشل، وحتى دون أن أبتعد أنا شخصيا عن هاتفي ربما لأن ظروف وطبيعة عملي تستوجب متابعة أحداث العالم لحظة بلحظة عبر تطبيقات الهاتف، كما أن أسرع وسيلة لتدوين أفكاري وكتاباتي أيضا هي تطبيقات ذلك الجهاز الذي لا يتعدى حجمه السنتيمترات، إلا أنه يستطيع حمل عدد لا نهائي من الكتب والمقالات والمعلومات، فهو بالطبع عملة ذات وجهين.
 
وبعد جهود وتفكير ومحاولات وجدت أن الحل الأمثل للابتعاد عن تلك الأجهزة والتخلص من إدمانها لن يأتي إلا بإيجاد بدائل أكثر إمتاعا وأيضا أكثر فائدة، واكتشفت أن ليس هناك متعة أكثر من المشاركة المباشرة، فاجتماع الأحبة والأسرة والأصدقاء واشتراكهم في نشاطات جماعية يبث بداخلهم سعادة حقيقية، ويحفر ذكريات لا تنسى ويجعل للحياة مذاق حي حقيقي ملموس.
 
قمت بشراء جميع الألعاب الورقية التفاعلية المتاحة والألعاب الجماعية الأخرى كالدومينو والشطرنج والطاولة وغيرها، وبالفعل كان لها تأثير فعال وكانت هي كلمة السر في جذب الصغار والتقارب الشخصي في أوقات الفراغ، وأثناء السفر والإجازات.
 
بالطبع فإن إشراك الأبناء في الرياضات الجماعية يعد عامل مساعد قوي في بناء علاقات اجتماعية مباشرة، وفهم معنى روح الفريق والعمل الجماعي وإخراج الطاقات، وملئ الفراغ بما هو مفيد.
 
أيضا تعد لقاءات الأصدقاء والعائلة في الأماكن المفتوحة والتي تحتوي على بعض الأنشطة المسلية المشتركة عاملا مساعدا في الإقلاع عن إدمان النظر لشاشات الهواتف، وإعادة لم الشمل والتقارب النفسي، فمهما كان حديثك مع الأشخاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي طويل ويومي لن يماثل لقاءكم المباشر وتفاعلكم معا وابتساماتكم وضحكاتكم في وجوه بعضكم البعض، ونقاشاتكم التفاعلية وجها لوجه.
 
إن ما يحدث في العالم وفي مجتمعاتنا اليوم يعد ناقوس خطر يدق في آذاننا لعلنا ننتبه وننقذ ما يمكن إنقاذه إن أردنا العودة حقا.
 
إن طوق النجاة يتمثل في "المشاركة" المباشرة.
 
دعونا نجتمع على معرفة أو فن أو لعب أو حوارات مباشرة.
 
هيا بنا نبدأ في مشاركة الهوايات مع أبناءنا وأزواجنا وأصدقائنا.. فلنرسم ونغني ونتريض ونقرأ الكتب ونلعب سويا.
 
هيا بنا نخطط للسفر لأماكن جديدة، ونتشارك في رحلات استكشافية وتأملية وما أكثر تلك الأماكن التي تذخر بها مصر.
 
فلنبدأ بحضور الحفلات الغنائية والعروض المسرحية والسينمائية والفنية المختلفة، لنستمتع بها وننقاشها معا.
 
أعتقد أنه حان وقت عودة الأسرة لمشاركة الأحلام والعواطف والأفكار، فلنحكي لأبنائنا قصص خاصة بتجاربنا الشخصية وخبراتنا تتخللها قيم ومبادئ وإرشادات نود أن نبثها بداخلهم بشكل غير مباشر.
 
أبناءنا يحتاجون إلى أن نمد إليهم أيادي المساعدة بالأفعال والحب والاحتواء والحوار والتقارب الفكري والنفسي والجسدي والاستماع والتفهم، وليس بالأقوال والإرشادات والتوجيهات الشفهية فقط، هيا بنا ننقذ ما يمكن إنقاذه اليوم وليس غدا.
 

 

تعليقات (2)
ليس في الامكان أجمل مما كان
بواسطة: فادي
بتاريخ: الثلاثاء، 02 نوفمبر 2021 04:03 م

عبرتي عما بداخلنا بمقال رائع سلس بسيط وليس في الامكان قول المزيد . تخياتي

ياريت نفوق
بواسطة: دينا شمس
بتاريخ: الثلاثاء، 02 نوفمبر 2021 04:04 م

اتمنى كلنا نعمل كدة ونخصص اوقات للتجمعات الاسرية بلا هواتف .. كلام جميل جدا وفكر بناء

اضف تعليق